الخميس، 14 مايو 2009

كباب (4)

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته، و بعد البسلمة و الحمد و الثناء، و الصلاة على خاتم الرسل و إمام الأنبياء، فإني أبتدئ القول باعتذار أسوقه إلى أخينا صاحب العزائم و شيخ الولائم .. الأمير ابن خنشور، و ذلك لما بدر منا من تقصير في الإجابة عن سؤاله، فأرجو أن يعذرنا على سوء أدبنا و إنما شيمة الكرام إذا اقتدروا أن يعفوا، و إنا لنعلم أن أخانا ابن خنشور ما غضب لنفسه يوما قط، و لكن ذنبنا اليوم فيه حجب الخير عن أفواه جائعة و بطون واسعة قد نزلت بباب الإحسان، و ذلك مما يستاء منه الجواد ابن خنشور و يمتعض.
و أما عن سبب تأخرنا في الإجابة فهو أننا كنا مرتحلين في طلب العلم من بعض أشياخنا في أطراف الأرض، و خبر ذلك ما سنورده مفصلا فيما يأتي:
فإنه لما رد الإمام أبو مالك علي رده السابق لبعض أيام خلت، و استند فيه إلى صحيفته الصفراء الممزقة تلك، وقع في نفسي أنه ما يكون لي أن أكذب الصحيفة فأدفعها، و لا أن أصدقها فأقبلها إلا بعد تثبت و يقين، فهرعت من فوري إلى قرطاسي و قلمي فاستنسخت الصحيفة، و إلى فرسي المضمرة فامتطيتها و أطلقت لها العنان، و انطلقت...
أجوز المفاوز و أقطع الصحاري، و أخترق الغابات و أعبر البراري، تستوقفني الجبال فلا أزال مقبلا حتى أبلغ رؤوسها، و تعترضني الوديان فلا أبرح متمكنا حتى أطأ بطونها، و بقيت على تلك الحال يوما و بعض ليلة لا أتبلغ بطعام و لا أرتوي بشراب، حتى بلغت مرادي بالوصول إلى مقام شيخي و شيخ آبائي من قبلي الإمام روح الدين و وسام شرف الأمة أبو المعتز بالله الصالحاني، في معكتفه من الغار الذي ما برحه مذ خلق، و الكائن في ناحية من أطراف دمشق يقال لها تواضعا " القدم ".
فلما وصلت كان الليل قد جن فقلت: و الله لئن دخلت الآن على شيخي لأجدنه قائما في صلاته، و لا أحب أن أشاركه صلاته الطويلة فيزعجني، و لا أن أقطعه عنها فأزعجه. فانتحيت غير بعيد عن الغار و جلست أتبلغ بلقيمات من كوردون بلو كنت قد تزودت بها في رحلي، أقيم بها صلبي، و أتقوى بها على طاعة ربي، فلما انسحقت اللقيمات بين ماضغي و حصل لي من لذيذ طعمها ما حصل، قلت: ويحك يا نفس! أتأكلين الطعام و تحتسين الشراب و شيخك جائع إلى جنبك و أنت تعلمين. فتركت اللقيمات التي كانت في يدي و حزمت أمري فدخلت الغار، فإذا الإمام أبو المعتز جالس على التراب و قد أسند رأسه إلى صخرة عظيمة من خلفه، و سبحته الطويلة في يده، فلما أن أحس بي تبسم، و بادرني دون أن يلتفت: أهان أمرنا عليك فأكلت من دوننا يا ابن أحمد؟!
فارتميت على رجله أريد تقبيلها، و قلت: اغفر لي يا شيخي، إني أتوب على يديك و لا أعود إلى ذنبي بعد اليوم أبدا. فقال: قم فقد سامحتك مذ دخلت فلا تبتئس، و أخبرني ما ورائك، أم أخبرك أنا؟
فقلت: أدام الله كشف الغطاء عنكم يا شيخي، إنما جاء بي ذاك الرجل، أبو مالك بن الأسمر، فإنه قد جاءني بصحيفة ما رأيت مثلها قط، فيها طعن صريح، و شبه تجريح، لمنهاج أكل الكوردون بلو، و هو –أي الكوردون بلو- على ما تعرف و أعرف من الفضل و الرفعة و علو الدرجة.
قال: فأما الكوردون بلو، فشيء ما عرفناه قط، فإني ما دخل جوفي مذ فطمت عن الرضاع إلا الأسودان: التمر و الماء، و أما ما تذكر من شأن الصحيفة فهات أرينيها، فلقد وسع علمنا بفضل الله ما وسع، ولئن أتيتني بالصحيفة لآتينك بناسخها، و لئن جئتني بالقول لآتينك بقائله، فذلك مما علمني ربي.
فقمت فناولته الصحفية ففضها و قرأ ما فيها بنظرة واحدة لم يثنّها، ثم تركها و عاد إلى تسبيحه. و لبث و لبثت على ذلك حينا، حتى كدت أن أهم بأمر سوء، و بينا نحن كذلك إذ طلع علينا الصبح و أذن فينا المؤذن فقمنا نؤدي المكتوبة. فلما أتممنا حق ربنا، التفت الإمام إلي و قال: يا ابن أحمد، إن لهذه الصحيفة شأنا له ما بعده، و إنها إذ كانت في يد خصمك فاعلم أنك لا تظهر عليه إلا بطويل صبر و كثير علم، و إنا لمزودوك بعد الدعاء بهذا الكتاب، فاذهب فألقه إليهم فانظر لعل الله يجعل فيه اصطلاح القلوب و نيل المرغوب. و قد جاء في الكتاب:
" من عبد الله وسام الدين أبو المعتز بالله الصالحاني إلى معشر المؤمنين أما بعد: فلقد بلغنا أنكم اختلفتم في صنفين من أصناف الشواء لا تدرون أيهما خير طعاما و أقرب نفعا، و إنا لنرى – و الأمر أمر الله – أن تجعلوا الصنفين على مائدة الوليمة، و ليأكل كل مما يحب، ذلك أدنى ألا تتنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم، و جزى الله صاحب الوليمة ما هو أهله، و لا تنسونا من ولائمكم و لا من صالح دعاءكم".انتهى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق