الخميس، 14 مايو 2009

كباب (9) ختام القول

ثم بعث لنا ابن خنشور أخيرا هدية مع بعض رسله و كتابا جاء فيه:
أما بعد: فقد ساءنا من أبي مالك قوله فينا: "فأيم الله لأقطعن يدي ورجلي ولأجدعن أنفي ولأسملن عيني بسيخ الكباب إن هو دعانا لأكل شواء أو كردنبل".
فرددنا عليه ببضعة أبيات من الشعر منحولة:
أبـا مالـكْ فلا تعجل علينا ..... و أنـظـرنـا لـنـطـعـمـك الـكـبـابـا
و ثِـقْ دوماً بأني لستُ شحّاً ..... و لا بـخـلاً أؤجـل مـا استطابا
و لكنْ حيرتي قد أقعدتني ..... وليت الـنـصـح يـأتـي و الصوابا
أنائلُ قُــم لإرشادي و نصحي ..... وواجه في سبيلهما الصعابا
و لا تهب الكبابَ و لا القوافي ..... فما حقّ ابن أسمر أن يُهابا
سأعزم من يفوز إلى طعامي ..... و أطعم خاسر الرهن الترابا
انتهى الكتاب.
غير أني كنت قد تيقنت بدوري من بخل ابن خنشور و (جربنته) فأهملت كتابه الأخير و رميته إلى فرسي لتلوكه!

كباب (8)

قال أبو مالك:
بسم الله رب الأنام والصلاة على حبيبه والسلام، أما بعد فقد أتاني الخبر عن بخل ابن خنشور وشح نفسه، واستيقنت أنه لا يطعم الناس إلا الخوازيق! فوأيم الله لأقطعن يدي ورجلي ولأجدعن أنفي ولأسملن عيني بسيخ الكباب إن هو دعانا لأكل شواء أو كردنبل.
هذا وقد برد قلبي بعد أن بلغ به الغضب ما بلغ، وسكنت جوارحي من بعد اضطرابها، بعد أن اتخذ ابن أحمد سبيلاً أقرب إلى الحق- وإن كان لما يلتحق بنا- وأبعد عن الباطل، وإن كان لما يكفر به كما ينبغي لأولي العزم من أتباع الرسل.
ولكني عجبت لأمرك، أمثلك يأتمر بأمر شيخ وينتهي بنهيه؟ أما أنا فما يكون لي أن أتخذ شيخاً وقد آتاني رب العالمين من فضله ما آتاني وعلمني من لدنه ما علمني، وأما ما ذكرتُه آنفاً من سند القول عن أشياخي فهو لتأخذوا عني ولتفهموا قولي. وأكبر ظني أن شيخك الصالحاني من أصحاب (السلتات) وإلا لأبى على نفسه أن يكون (ضيفناً).
حدثني شيطاني أبو سركيس عن الجاحظ قوله "والضيفن هو ضيف الضيف الذي يلتحق به ويتطفل على أصحاب الدعوة".
و قد أعياني- وحق ربي- وصف الشواء بما يستحق في مقام النثر، فلم أجد غير مقام الشعر فاسمع:
ألا حي المشاوي والكبابا ..... وما قـد لـذّ مـن أكـل وطـابـا
وإنْ رجـلٌ دعاك لكردنبلو ..... فـأسمعه الـشتـائـمَ والسبابا
فإن الكردنبل طعام سوءٍ ..... سأهتك عن مساوئه الحجابا
لو استبخرتَه في البيت يوماً ..... لأهلكتَ البعوضةَ والذبابا
ومن يرجو لذيذَ الطعم منه .... كمن في قـفرة لحق السرابا
فدع عنك الطعام سوى شواءٍ .... متى ما لُكتَه في فيك ذابا
فـإن اللـحـم خـيـر الأكـل طـراً ..... ودعـوته أحق بأن تجابا
لعـمـري إن مـنـظـره بـلـيـلٍ.....على الجمرات تلتهب التهابا
لأجمل من محيّا ذات حسنٍ ..... إذا الحسناء أسقطت النقابا
ونزّ الدهن أطيب نكهةً من.... لمى العذراء تسقيك الرضابا
وصوت نشيشه في الأذن خيرٌ ... وأجمل من مواويل العتابا
فحسبي اللحم لا أرضى سواه .... طعاماً أو حساءً أو شرابا
أنـبـتـدع الـطـعـامَ ونـحـن قومٌ ..... جـعـلـنـا كـلَّ مـبـتـدَعٍ يبابا

و جزى الله الطبيب السبيعي خيراً على مناصرتنا والله يشهد أن هواه مع الكباب دون الذي هو أدنى، وأما الحوت والسمك وغيره من طعام البحر فسأمنحكم شيئاً من علمي عنه في مواضيع قادمة مع طريقة طبخه وكيفية إنضاجه، فإن في تعليم الجاهلين ثواباً، وقد بلغني أن الذي يكتم العلم له عذاب أليم، فخذوا عني قبل أن أغادركم إلى دار البقاء .... إلى دارٍ خيرٍ وأبقى ... إلى قصورِ ياقوتٍ ومرجان، ولحمٍ وفاكهة ورمان، وحورٍ عينٍ حسان (إيييييييه) ورضوان من الله أكبر، والسلام عليكم.

كباب (7)

قال أبو مروان:

بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد لله الذي لو شاء لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، والصلاة والسلام على أفضل الخلق المبعوث رحمة للعالمين، وبعد:

فإني بعدما طال بكم المقام، عزمت على أن أسأل أصحاب الرأي والتجربة عن رأيهم في أطايب الطعام، فلجأت إلى جدي، أكرمه الله وأطال في عمره، وقد جمع الله له مع رجاحة العقل طول التجربة، وقد قال أهل الأمثال من الصالحانيين: اسأل مجرباً ولا تسأل "حكيم".
قلت لجدي: أفتنا في الطعام والشراب، أيهما أطيب: الكردنبل أم الكباب؟! فتبسم وأجابني: اعلم يا بني أني طوفت البلاد، وجبت الآفاق، فما وجدت بني آدم يختلفون في شيء اختلافهم في الطعام والشراب، وقد قيل: "كل مما تشتهيه نفسك، والبس مثلما تلبس الناس" ووجدت يا بني أنه ما استطابه أهل مصر من الأمصار لم يكد يسيغه أهل غيره من البلدان، ولكني والحق أقول، لم أجد في حمراء الأمم وصفرائها إلا ومن يستحسن ويستطيب السمك، وألذه فرخ الرملي الذي إذا ما أخرج من البحر طازجاً، وطبخ بالفرن حتى يسيل الدهن عن جانبيه، ثم تبّل تتبيلة السمكة الحرة وقدم مع أرز الصيادية، فإنه يسر ويعجب جميع القوم، حتى لا يختلف في الإعجاب به إثنان، ومهما تفرقت بالناس الأهواء في الطعام، اجتمعوا على حب السمك وتفضيله على غيره.
قلت: فما قولك يا جدي فيمن اختلف على فضل ما بين الكباب والكردنبل، وجعل الدعوة إلى الوليمة لمن يأتيه بالقول الفصل؟
قال: أما والله إن صاحبك هذا لماكر، وما أحسن ما تخلص، فوالله لن يتفق الناس على فصل ما بينهما إلى يوم يبعثون، واعلم أن الخلق لا يزالون في اختلاف، وأنه لو كان كريماً كما تقول لدعاكم إلى ما شاء من الأصناف، ولو علم أن رضى الناس غاية لا تدرك، لجعل على مائدته بعضاً من السمك، فإنه لن يختلف عليه اثنان، ولن ينتطح فيه عنزان، ولو اقتصر على السمك لقام عنه الناس شاكرين، ولدعوا له أجمعين: "اللهم أخلف على من بذل، وهيئ لنا غيره في العجل العجل"
قلت: يا جدي، فما العمل؟
قال: ليس أمامك إلا أن تفعل ما فعله أبو يوسف القاضي. قلت وما فعل؟ قال: ذكر أبو منصور الثعالبي أن هارون الرشيد وزبيدة اختلفا في الفالوذج واللوزينج، أيهما أفضل؟ ثم تحاكما إلى أبي يوسف القاضي، فقال أبو يوسف: إني لا أحكم بين غائبين، فأحضروهما أحكم عليهما!
وللقصة تتمة، نقصها عليكم إن صدق ابن خنشور فيما عزم عليه من نيته، وأنجز لنا ما كان يصفه من دعوته.
وإلا... فإن معشر حكيم سيدعون الله في ليلة القدر، من أجل أن يبعث أبا عثمان الجاحظ من قبره، ليكتب لنا فصلاً جديداً في كتابه: البخلاء.

كباب (6)

قال الحكيم السبيعي*:
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فقد راعني ما شهدت من حرص على التأ صيل والتدقيق و التمحيص في أمر ذي جلل يحار فيه اللبيب و يخطئ فيه الاريب. و من تمازجت حليمات ذوقه بالطعام تمازجا وتعانقت مع أريج الغذاء تعانقا، أبى إلا ان يجد الفصل في القول و الحق بين الآراء، على أن الاختلاف غير مفسد للود أو باعث لضغينة.
و إني مبلغكم فاسمعوا عني، لاأبتغي بذلك إلا مثوبة من لاتضيع الودائع عنده، و إني رغم ودي للعلامة ابن أحمد لكني خبرت أهل الغرب والشرق، وأكلت من طعامهم و شربت من شرابهم، حتى عرض علي هذا الكوردون و حسبته ما كان يظنه أخونا ابن أحمد طيبة من أطيابهم وفلتة من فلتاتهم و شيئا آخر غير ما عهدناه، يطرب للقائه اللسان، وتنتشى به الأمعاء، و تسكر به الجنان.
تناولت أول قضمة وكأني أمضغ مطاطا عجن بتراب فاسد! فقلت في نفسي: هون عليك و دع الحكم للقضمة الثانية، فإن الله لايحب المتعجلين وفي التأني السلامة. ولعلك إن تركت لحليمات ذوقك العنان تسبح فى أفق التلذذ و المعاينة والكشف تأتي بما لم يبصره الكثيرون من بديع الخلق وحسن الصنع. و ما أن هممت بالثانية حتى لاح لي في الصحن لون لم نك نألفه في الكوردون، وفي لحظتها هاج بي غثيان عظيم، وصرت أدافع ما بقي في فمي لئلا يصل إلى جوفي. وما كدت أصدق أن الدجاج قد مزج بلحم خنزير، وأن النجس كاد يمر إلى جوفي. فقمت وقد عافت نفسي كل طعام، و لساني يلهج بالاستغفار. وأنا أحلف من يومها ألا أدع لهذا الكوردون سبيلا إلى فمي، حتى و إن تيقنت من مصدره و معجنه إلا أن يخرجني ربي من بلاد لايذكر فيها اسمه أو تراعى فيها حرمته.
وهكذا آل بي المآل أن لا أسرع في طعام الفرنجة ولا أثق بمستظرفهم إلا ما قل و ندر. و الحمد لله الذي جعل في الأمة من يصنع كبابا يحار فيه الحكيم ويهرع إليه أهل الشرق والغرب، و من زهد فيما يديه إبتغاء ما في يد الناس ألبسه الله لباس الجوع و الندم. فهل من مبلغ عني؟ اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد.
_____________________________
* هو الطبيب الأريب، و الصديق الحبيب، الدكتور عمر السبيعي.

كباب (5)

قال ابن خنشور:
كـبـابـاً فـي رُبـى دومــا اُقـــيـــــمُ ........... و لــحـــمـاً لا يُـــقـاوَمُ يــا حـــكــــيـــمُ
و لله الحمد و المنّة، أما بعد: فلقد أجاد ابن أحمد في مدحنا و إظهار جودنا و كرمنا و إنه والله حق و لو كره الصالحانيون. و قد كفى و وفى حين رام حسن النصيحة و صارع لأجلها الجبال و الوديان ليأتينا بها على طبق من فضة و ليته لم يفعل!
و لا أقصد بذلك النصيحة و إنما مصدرها، وردنا من مصادرنا الموثوقة أن ذلك (المستشيخ) الزنديق المدعو - أبو المعتز الصالحاني - المنزوي في غاره المهجور ما كان ليكون على هذه الحال لولا أن جار به الزمان و تقطعت به السبل و الأوصال. ذاك الذي يدعي المشيخة و الحكمة كان في يوم من الأيام في بلاد الفرنجة الانكليز فأخذ منهم كل ما هو خبيث و مستقذر و عاد به إلينا ليفسد في الأرض. فما كان من قومه إلا أن نفوه إلى ذلك الغار التعيس، فادّعى الحكمة علّه يحظى بصدقة أو كوردون بلو من أولئك المغفلين الذين يزورونه. و إنني و الله– يا ابن أحمد– لا أسبغ عليك هنا صفات المغفلين -معاذ الله- و لكن أقول لكل جواد كبوة و لكل شاعر سقطة؛ فاجتهد في طلب النصيحة و اعتمد على عقلك و حكمتك فإنهما و الله يزنان ملئ الأرض من أولئك الصوالحة أئمة البدع و الضلال.
و سأفضل مبدئياً الكباب على الكوردون بلو إلى أن يتم الفصل بينك و بين ابن الأسمر. و اعلم يا ابن أحمد أنه لا يمنعني من إقامة وليمة فيها من الكباب و الكوردون بلو ما تشتهيه النفس و تسعد به الروح إلا أن يقال: عدم أشاوس الطب الرأي و لم يفصلوا بين الكباب و الكوردون بلو! و الحمد لله رب العالمين.

كباب (4)

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته، و بعد البسلمة و الحمد و الثناء، و الصلاة على خاتم الرسل و إمام الأنبياء، فإني أبتدئ القول باعتذار أسوقه إلى أخينا صاحب العزائم و شيخ الولائم .. الأمير ابن خنشور، و ذلك لما بدر منا من تقصير في الإجابة عن سؤاله، فأرجو أن يعذرنا على سوء أدبنا و إنما شيمة الكرام إذا اقتدروا أن يعفوا، و إنا لنعلم أن أخانا ابن خنشور ما غضب لنفسه يوما قط، و لكن ذنبنا اليوم فيه حجب الخير عن أفواه جائعة و بطون واسعة قد نزلت بباب الإحسان، و ذلك مما يستاء منه الجواد ابن خنشور و يمتعض.
و أما عن سبب تأخرنا في الإجابة فهو أننا كنا مرتحلين في طلب العلم من بعض أشياخنا في أطراف الأرض، و خبر ذلك ما سنورده مفصلا فيما يأتي:
فإنه لما رد الإمام أبو مالك علي رده السابق لبعض أيام خلت، و استند فيه إلى صحيفته الصفراء الممزقة تلك، وقع في نفسي أنه ما يكون لي أن أكذب الصحيفة فأدفعها، و لا أن أصدقها فأقبلها إلا بعد تثبت و يقين، فهرعت من فوري إلى قرطاسي و قلمي فاستنسخت الصحيفة، و إلى فرسي المضمرة فامتطيتها و أطلقت لها العنان، و انطلقت...
أجوز المفاوز و أقطع الصحاري، و أخترق الغابات و أعبر البراري، تستوقفني الجبال فلا أزال مقبلا حتى أبلغ رؤوسها، و تعترضني الوديان فلا أبرح متمكنا حتى أطأ بطونها، و بقيت على تلك الحال يوما و بعض ليلة لا أتبلغ بطعام و لا أرتوي بشراب، حتى بلغت مرادي بالوصول إلى مقام شيخي و شيخ آبائي من قبلي الإمام روح الدين و وسام شرف الأمة أبو المعتز بالله الصالحاني، في معكتفه من الغار الذي ما برحه مذ خلق، و الكائن في ناحية من أطراف دمشق يقال لها تواضعا " القدم ".
فلما وصلت كان الليل قد جن فقلت: و الله لئن دخلت الآن على شيخي لأجدنه قائما في صلاته، و لا أحب أن أشاركه صلاته الطويلة فيزعجني، و لا أن أقطعه عنها فأزعجه. فانتحيت غير بعيد عن الغار و جلست أتبلغ بلقيمات من كوردون بلو كنت قد تزودت بها في رحلي، أقيم بها صلبي، و أتقوى بها على طاعة ربي، فلما انسحقت اللقيمات بين ماضغي و حصل لي من لذيذ طعمها ما حصل، قلت: ويحك يا نفس! أتأكلين الطعام و تحتسين الشراب و شيخك جائع إلى جنبك و أنت تعلمين. فتركت اللقيمات التي كانت في يدي و حزمت أمري فدخلت الغار، فإذا الإمام أبو المعتز جالس على التراب و قد أسند رأسه إلى صخرة عظيمة من خلفه، و سبحته الطويلة في يده، فلما أن أحس بي تبسم، و بادرني دون أن يلتفت: أهان أمرنا عليك فأكلت من دوننا يا ابن أحمد؟!
فارتميت على رجله أريد تقبيلها، و قلت: اغفر لي يا شيخي، إني أتوب على يديك و لا أعود إلى ذنبي بعد اليوم أبدا. فقال: قم فقد سامحتك مذ دخلت فلا تبتئس، و أخبرني ما ورائك، أم أخبرك أنا؟
فقلت: أدام الله كشف الغطاء عنكم يا شيخي، إنما جاء بي ذاك الرجل، أبو مالك بن الأسمر، فإنه قد جاءني بصحيفة ما رأيت مثلها قط، فيها طعن صريح، و شبه تجريح، لمنهاج أكل الكوردون بلو، و هو –أي الكوردون بلو- على ما تعرف و أعرف من الفضل و الرفعة و علو الدرجة.
قال: فأما الكوردون بلو، فشيء ما عرفناه قط، فإني ما دخل جوفي مذ فطمت عن الرضاع إلا الأسودان: التمر و الماء، و أما ما تذكر من شأن الصحيفة فهات أرينيها، فلقد وسع علمنا بفضل الله ما وسع، ولئن أتيتني بالصحيفة لآتينك بناسخها، و لئن جئتني بالقول لآتينك بقائله، فذلك مما علمني ربي.
فقمت فناولته الصحفية ففضها و قرأ ما فيها بنظرة واحدة لم يثنّها، ثم تركها و عاد إلى تسبيحه. و لبث و لبثت على ذلك حينا، حتى كدت أن أهم بأمر سوء، و بينا نحن كذلك إذ طلع علينا الصبح و أذن فينا المؤذن فقمنا نؤدي المكتوبة. فلما أتممنا حق ربنا، التفت الإمام إلي و قال: يا ابن أحمد، إن لهذه الصحيفة شأنا له ما بعده، و إنها إذ كانت في يد خصمك فاعلم أنك لا تظهر عليه إلا بطويل صبر و كثير علم، و إنا لمزودوك بعد الدعاء بهذا الكتاب، فاذهب فألقه إليهم فانظر لعل الله يجعل فيه اصطلاح القلوب و نيل المرغوب. و قد جاء في الكتاب:
" من عبد الله وسام الدين أبو المعتز بالله الصالحاني إلى معشر المؤمنين أما بعد: فلقد بلغنا أنكم اختلفتم في صنفين من أصناف الشواء لا تدرون أيهما خير طعاما و أقرب نفعا، و إنا لنرى – و الأمر أمر الله – أن تجعلوا الصنفين على مائدة الوليمة، و ليأكل كل مما يحب، ذلك أدنى ألا تتنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم، و جزى الله صاحب الوليمة ما هو أهله، و لا تنسونا من ولائمكم و لا من صالح دعاءكم".انتهى

كباب (3)

قال أبو مالك:
اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم هذا زمان يتكلم فيه الرويبضة فاغفر اللهم وارحم!
أما ما ذكره فلان - ولا أكتب اسمه بقلمي - من استمراء العرب لطعام الأعاجم فهو مثل ضرب في غير محله ليدخل اللبس في قلوب الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فلا يُنكر على أبناء قحطان ازدرادهم للأطايب من طعام علوج المشرق والمغرب، وإنما المنكر المرذول ما يدعو أمثالك إلى اعتقاده بتفضيل الخبيث على الطيب.
وقد عثرت في خزانة كتبي التي وسعت مؤلفات العرب وعلوم الأولين والآخرين على مخطوطة نفيسة ما قرأها بعد كاتبها غيري , وقمت بتدقيقها وتحقيقها والتعليق عليها , وهاك صورة عن جزء منها:


وما أظن الكردنبل إلا ما تسميه الكوردون بلو، وإذا كنت لا تفقه حكمة أشياخنا ولا تهتم أقالوا أم لم يقولوا لضعف في إيمانك، فلعلك تملك الخصلة الثانية فإن لابن آدم في الدنيا خصلتين العقل والدين فإن عدم واحدة فلا يعدم الثانية ففي ذلك هلاكه وضياع دنياه وآخرته، وأحسبك تعلم الطب وأصول علاج الأدواء، فإن كنت عاقلاً كان حقاً عليك أن تعلم أن الكباب إن دخل الجوف انفصلت أمزجته بفعل حرارة الكبد والتحق كل منها بأصله من أخلاط الجسم، أما الكوردون بلو فهو سريع الفساد في رطوبة الجوف مشتد العفونة عند سيلانه في البلغم.
أعقلت؟! أدريت؟! فإن لم يك كلامي هذا قد قطن مداركك وسكن في مستقر فكرك فقد عدمت العقل الرشيد، ووالله ما أحسبك إلا كذلك.
والذي خلق السماوات والأرضين بالحق لا يزال سيفي في يميني أذود به عن معتقد آبائي وأجدادي حتى تكون الغلبة لي أو يكتب الله غير ذلك، وما عند الله خير وأبقى.

كباب (2)

السلام عليك يا أخي ابن خنشور، و أطال الله عمرك و أدام عزك أيها الرجل الجليل، الموفور حظه، الطالع نجم سعده.
و بعد فإنني كلما استيقنت أن قد لقيت منك أجمل ما يلقاه المرء من كريم الطباع أصيل المنبت، جئت تهدم علي بنيان يقيني بما هو أحسن من الحسن و أجمل من الجمال، فما أقرأه اليوم من أمر الوليمة التي تعتزم إنفاذها و دعوة صحبك إليها هو لعمري بادرة عظيمة تنم عن كرم و جود و إيثار لا تكون إلا فيمن سمت نفسه عن قذر الدنيا و مذرها؛ من ذهب أو ورِق، و إني لأرجو الله أن ينتفع بك العامة و الخاصة من القراء، فإن لهم فيك و في أمثالك لأسوة حسنة إي و ربي .
و أقول لكل من قد يستغرب مناسبة الوليمة أو يتعجب من سببها: لا تعجبوا إخواني .. فإنا في ضيافة رجل أصيل لا يعدم الحيلة لإطعام الطعام أبدا حتى و إن اضطر إلى اختلاق المناسبات اختلاقا، و الإتيان بموجباتها جزافا.
أما ما ذكرت أخي من حيرتك في صنف المشوي من اللحم، فاسمع مني -لا توّه الله لك رأيا- فإنك واجد في قولي بيان ما تسأل إن شاء الله، و إني أستميحك عذرا إذ تأخرت في إجابتك، و ما منعي عنك اشتغال بهزل أو لهو معاذ الله، إلا أني عمدت إلى بعض خيرة أشياخي و مراجعي و كتبي سؤالا و بحثا و تمحيصا كي آتيك منها بخبر يقين فلا أتجرأ كغيري على الفتوى دون تثبت، إذ أن أجرأ الناس على الفتوى أجرأهم على النار كما ورد عن أشرف الخلق صلاة ربي و سلامه عليه، و قد قالت العلماء ثلاثة يتمنى العاقل فيها أنه ما نطق قط: فتوى بلا يقين، و دعاء على سلطان ظالم قال فيه آمين، و اعترافه بذلك أمام المحققين.
و قد تبين لي بعد طول البحث و إمعان النظر، و تجريب الكل و استقصاء الخبر، و بعد استفراغ كتب الأولين و استقراء كتب الآخرين؛ أنه قد ثبت أخيرا عند الأئمة الثقات من المتأخرين العارفين أن لا فضل لكباب على كوردون بلو و لا لشقف على شيش طاووق إلا بجودة اللحم و إتقان الطبخ، و أنما تفضل سيدي أبو مالك بذكره على عجالة إن هو إلا رأي عتيق قد بليت جدته و خلقت أرديته و ثبت بطلان أدلته.
و إني – إن رمت معرفة ما أهوى - كنت لأنصحك بالكوردون بلو على طريقة الإفرنج في بلاد الغال فإن له لحلاوة، و إن عليه لطلاوة، غير أنك و لا ريب تعلم ما أعلم و تسمع ما أسمع من شأن ذلك المخلوق الحقير الذي أمسى و أصبح يفتك بالمئات و الألوف من الطير و البشر ، و المسمى عند أئمة علوم الطب "بفيروس إنفلونزا الطيور"، فاحذر إذ علمت شره الوقوع فيه فإنك لا تأمن مغبة أكله، و إن أقل الناس عذرا في ارتكاب الشرور و إتيان المذموم أبصرهم بعواقب أفعالهم و أعلمهم بضررها، و مثال ذلك أن رجلين أحدهما بصير و الآخر أعمى تصاحبا حينا، فساقهما الأجل إلى حفرة فوقعا فيها، فاندقت رقبتهما و انكسر سن أطلسهما فماتا على الفور بأذية المراكز العصبية الحيوية، فلما علم الناس بأمرهما أجمعوا على وقوع وزرهما جميعا على عاتق البصير .. إذ أن له عينان تبصران موضع قدميه و أما الأعمى فصار إلى الحفرة جاهلا غير عارف، و كان حكم القاضي على أهل البصير بدفع دية الأعمى إلى أهله.
فلذلك فإني أنصحك مكرها غير مختار باجتناب الكوردون بلو الآن و إن على مضض، فإنه لا يأكل لحم الطير اليوم إلا من كان سفيها أو به أذى من رأسه، و إن آكل الفروج صار في هذا الزمان العاطل كشارب السم لا ينتظر إلا الهلاك، و قد قيل: ثلاثة لا يجترئ عليهن إلا أهوج، و لا يسلم منهن إلا قليل: صحبة الوحوش، و ائتمان النساء على الأسرار، و شرب السم للتجربة.
و لاتغترن أخي بقول بعض المتشددين و المتفيهقين- من أمثال أبي مالك- بكراهة أكل الكوردون أو غيره من طعام العجم، فإن العرب عندما طارت بهم فتوحات الإسلام إلى مشارق الأرض و مغاربها و أرتهم طعاما غير طعامهم و شرابا غير شرابهم، لم يمنعهم أكلهم الجزور و شربهم لبن الشياه عن طعام غيرهم من الأمم ، و لقد أكلت العرب حلوى الروم فاستحلت اللوزينج، و طعمت إدام الهند فاستمرأت الكبسة، و جربت موالح الفرس فاستظرفت الكاجو، و شربت الشراب في أقداح الصين و المغول فاستساغت الشاي.
و تحلت بالبندق ، و تسلت بالفستق ، و التهمت الطبيخ ، و تقاذفت بالبطيخ ، و جربت الخبيص ، و مصمصت العصاعيص ، و علكت اللبان ، و شربت دبس الرمان ، و تفننت بالطعام أشكالا و ألوان.
و لو أن أسلافنا عافوا طعام الإفرنج و العجم، و اقتصروا على طعام جزيرة العرب دون طعام سائر الأمم، لماتوا في غيظهم كمدا، و لتفرقت أشياعهم بددا.
فمن أين أتيت سيدي أبا مالك بكراهة الكوردون بلو، و ليت شعري لو عرفت ما الكوردون أو ذقت طعم صلصته لما قلت ما قلت، غير أن الجاهل بالشيء قد يكرهه ، و الغافل عن الحق قد يكفره، و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فهذا بيان رأيي في أصناف الشواء، أسأل الله مولاي أن يجزيني به خيرا إن أصبت، و عفوا و صفحا إن زللت أو أخطأت، و أن يجنبنا اتباع الهوى و الميل إلى الشهوات إنه سميع قريب مجيب.

الأربعاء، 13 مايو 2009

كباب (1)

قال ابن خنشور:
أنا واقع حالياً في معضلة كبيرة. أريد أن أقيم وليمة لأصدقائي المقربين بمناسبة حملي لمادتين في الفصل الأول و لا أعرف ماذا أقدم في هذه الوليمة هل كباب لحم الجمل أم الكوردون بلو؟ أطلب النصح و الإرشاد من أخوتنا الحشاشة
قال أبو مالك:
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على نبينا في كل الأزمنة والأماكن رغم أنف أهل كوبنهاغن، أما بعد: فاعلم يا هذا وإن كنت لا أعرفك أنك وطئت بداية الطريق ووجدت منطلق السبيل بسؤالك أهل المعرفة والحكمة، فقد علمنا أن الجهل ما أهلك صاحبه وإنما أهلكه القعود عن السؤال وأفسد أمره في الدنيا والآخرة التخاذل واتباع الهوى دون مشورة أرباب العلم والعقل، واعرف فضل الله عليك إذ وقعت على خير عليم بأمور اللحم والشواء، أبعد الله عنا العجب والكبر.
حدثنا شيخنا عن أشياخه أن ابن سركيس قال "مثل الكباب والكوردون بلو كمثل الأودي والسوزوكي" وحسبك من الكوردون أن في اسمه عجمة وفي لفظه لكنة وأنه أتانا من بلاد الافرنج والأعاجم حيث يوجد كل مستقذر وينبت كل خبيث.
و والله ما ذقت الخمر ولا شممت ريحه ولكني سكرت من رائحة المشوي ودخان الكباب، وما أطربني صوت زرياب أو إسحاق ولا هزني غناء القيان بدار الأمير ولكني شققت أثوابي طرباً وإعجاباً بصوت نشيش اللحم تتسايل قطعه عرقاً ومرقاً. وإن كنتَ آكلاً للحم المشوي في وليمة دعيتَ إليها فلا تأكل معه شيئاً من أكل عامة الناس مما يسمونه البطاطس والتبولة والمتبل، ولا تمضغه كثيراً فإن للمعدة شهوة لقطع اللحم الكبيرة، وانتق قطع الخبز التي أغرقها الدهن و بللها الدسم ولا تأبه لما يشيعه جهلة الأطباء عن العصائد في الأبهر والوتين وعروق القلب، ولا تستح ممن حولك فلعلك لا تأكل لحماً بعد يومك ذاك. ولا تغسل يديك أو فمك بعد شبعك فإن للأنف والأصابع والشفاه حقوقاً في اللحم كما للسان والمعدة.
أما إن كنت مولماً على اللحم وكنت أنت تشويه فليكن كبابك لحم جمل ولتكن جوذاباتك لحم ضأن، فلحم الجمل أشد وأكثر استمساكا، وإن دعوتني فلن أردك خائباً وسأجيب دعوتك فإن إجابة الدعوة واجب ... وفقك الله وحماك من أباطيل المرجفين الذين يؤثرون طعام الروم على طعام أنقياء النسب من العرب ... والسلام.

St. George's Hospital

ماذا فعل طلابنا السوريون في سانت جورج؟ و لماذا صرنا نسمع اسم هذه الجامعة يتردد كثيرا هذه الأيام على لسان طلاب الطب الراغبين في متابعة الدراسة في الخارج؟
سانت جورج لمن لا يعرفها، مشفى جامعي طبي بريطاني يقع في مدينة لندن، و قد قبلت هذه المشفى في العام الماضي عددا لا بأس به من طلاب الطب السوريون لإجراء ستاجات تدريبية ضمن أروقتها، حتى ظن البعض أنها الفرع البريطاني الجديد لمشفانا العريقة مشفى المواساة، و سانت جورج اليوم هي الوجهة الأولى التي يفكر طلابنا في التوجه إليها صيفا لإجراء الستاجات الخارجية.
منذ أيام التقيت بأحد الأصدقاء من طلاب الطب، و كان مكشرا مطنبرا على غير عادته فسألته: خير معلم .. ما وراءك ؟! فأجاب: إليك عني يا أبا أحمد، إليك عني، فصاحبك الذي تكلم قد أفطر اليوم على كمّ مرتب، و سدت في وجهه أقرب الطرق إلى العلم و المعرفة. قلت: ويحك! ما القصة ؟ أي كمّ هذا و أي طريق ؟! قال: إنها سانت جورج يا صاحبي، سانت جورج، أما علمت أني راسلتهم و بعثت إليهم طلبا لقبولي متدربا عندهم؟ قلت: بلى قد علمت و كذلك فعل العشرات غيرك فما الجديد؟ قال: اليوم صباحا كنت "أشيّك" بريدي الالكتروني فألفيت في صندوق الوارد رسالة منهم تحمل اسم أميرتهم الليدي ديانا، قلت: الليدي ديانا سبنسر .. أميرة ويلز الراحلة ؟! قال: لا ... الليدي ديانا والتون المسؤولة عن المراسلات عندهم فإذا بها تقول في رسالتها:"عذرا منك، لن نقبل في هذا العام لا سوريين و لا حتى نيجريين" تصور! هذه عبارتها حرفيا لا جرم أن زملائنا الذين تدربوا عندهم هذا العام قد أظهروا من التخلف و التهاون ما جعل إدارة سانت جورج تأخذ عن السوريين صورة شنيعة و إلا فما الخبر ؟! و لقد سمعت أيضا من صاحب لنا يراسلهم هو الآخر أن الليدي ديانا قد ردت عليه بقولها: "للأسف لا مكان للطلاب السوريين بيننا، و أخبر عميدة كليتكم بالنيابة عنا أن تكف عن إرسال الطلاب السوريين إلينا فقد توقفنا عن قبول السوريين" قلي بالله عليك ما رأيك ؟ قلت: و الله يا صاحبي لا أشهد لزملاءنا إلا بالخير، و لكن إن شئت عدت بك إلى نسختي الخاصة من كتاب كليلة و دمنة لأبحث لك فيها عن الرأي، فهي كما أخبرتك لا يصعب عليها مثل و لا تنقصها حكمة. قال: أجل .. هات أسمعنا ما في كتابك هذا. فأخرجت الكتاب العتيق من حقيبتي و قلبت صفائحه حتى وصلت إلى صحيفة وجدت فيها دمنة يخاطب كليلة و يقول له في بعض قوله:
إنما الدنيا كما تراها يا كليلة، قسمة الله بين البشر، كل بحسب ما يعمل و يجتهد، أو بحسب ما ييسر الله له عن حكمة و تقدير، و إنما تراه من علو شأن أقوام و ارتفاع منزلتهم، و انحطاط بعضهم الآخر و دنو درجتهم، إنما مرده إلى عمل كل منهم و اجتهاده، و تخطيطه و تدبيره و تفكيره، مع تيسير الله و حكمته طبعا، فالعاقل يا كليلة من نظر في عمل الناس من حوله ففكر و قدر، ثم عمل بحسب طاقته و بحسب ما خطط له و دبر، و الجاهل الأحمق من سار في تيار البشر من حوله و اغتر بما آتى الله غيره، و مد عينيه طمعا في أن يكون له مثل ما لهم ،فغفل عن حكمة الله في أن جعل لكل نصيبا، و لكل قدرا، فما مثله حينئذ إلا كمثل أهل قرية كفر البصل.
قال كليلة: و ما ذاك ؟
قال دمنة: زعموا أن قرية من قرى غوطة دمشق آتاها الله أرضا خصبة، و مياها عذبة، فجعل أهلها يعملون في زراعتها، و يدأبون في حرثها و بذرها، فصارت تعطي أكلها كل حين بإذن ربها، من عنب و زيتون و رمان، و مشمش حلو و سفرجل لفان. قيل و كان في طرفها فلاح فقير، قد ابتلاه الله إذ جعل نصيبه من هذه الجنة، أملح الأرض تربة، و أشدها بوارا، و أنزرها ماء، فلم تكن أرضه لتعطيه بعد طول الكد و العناء، إلا من الجمل أذنه كما يقال، فكان الناس من حوله ينعمون بالطيب من الثمار، و هو بأرضه يشقى من ضيق ذات اليد و ارتفاع الأسعار، و ما أشد على نفس المرء من الضيق، إلا أن يكون ضائقاو الناس من حوله إلى لهو و سرور و غناء و تصفيق.
قيل فجلس يوما يفكر، و يجهد عقله بالتخطيط و يحمله حملا على أن يدبر، فلمعت رأسه بفكرة عبقرية، فقال: و الله ما كان لأحد أرض مثل أرضي إلا شقي بها مثل ما شقيت، و أعجزته و أعيته مثلما عجزت أنا و عييت، و إني لا أرى إلا أن أترك زراعة أهل هذه القرية من المشمش و العنب و الرمان، و ألتفت إلى زراعة البصل!، فإنه لا يحتاج لا إلى طيب الأرض و لا إلى كثرة الماء، و هو و إن كان بخسا لا يباع المكيال منه إلا بالدانق و الدانقين، إلا أن الكحل خير من العمى، و الفقر مع القناعة غنى، و القليل كثير إن نُظر إليه بعين الرضى.
و مضى الزمن يحمله عمل أهله، فالزارع يزرع، و الصانع يصنع، و الجندي يحارب بالسيف و المدفع، و صاحبنا الفقير في أرضه يجاهد و يكدح و يدفع. و كانت سنة أرسل الله فيها على مزارع البصل المعروفة في شرقي سوريا دودة خبيثة، تأكل لب البصل فلا تذر إلا قشره، فما سلم منها إلا القليل القليل، و أرض هذا الفلاح الفقير. فإذا بمكيال البصل و بعد أن كان يباع بدانق نحاس، قد علا سعره فصار سعر المكيال منه عشرة دراهم ذهبية و اشتد عليه طلب الناس، و إذا بالفلاح الفقير قد حصل له ما حصل، و بعد أن كانت أرضه بورا صارت تعد بلغة السوق منجم بصل.
قيل و رأى أهل القرية حال هذا الفلاح كيف انقلبت في أيام، و كيف علت منزلته من الفقير المدقع إلى مرتبة الأشراف و الكرام، فما كادت أنفسهم تطيق ذلك، و كرهوا مزارعهم و أشجارهم و ثمارهم، حتى صار طعم البصل المر، أحب إليهم من حلاوة العنب و طيب المشمش، و أضمروا جميعا على احتذاء حذو هذا الفلاح، و قلب مزارعهم من جنات العنب إلى أكفار بصل.
و ضرب الدهر ضربة، فإذا محصول القرية كله من البصل، و إذا بسعر المكيال منه يتهاوى، لزيادة العرض و قلة الطلب، فلا يكاد الكيس الكبير منه يباع بنصف دانق من نحاس، فحل بأهل تلك القرية سوء ما عملوا، و كان فعلهم هذا خرابا على أنفسهم قبل أن يكون خرابا على ذلك الفلاح الفقير. و منذ ذلك اليوم و حتى الآن باتت تلك القرية تسمى قرية " كفر البصل" و صارت تعرف بين الناس باثنتين إنتاج البصل و عجز أهلها و فقرهم.
قال كليلة: و الله يادمنة كأني أراك تخبرني عن مثل طلاب الطب في جامعة دمشق في تهافتهم على مشفى سانت جورج و نسيانهم لغيرها من المشافي و الجامعات في بريطانيا و في غيرها.

شاي (8)

جزى الله كل من حكم و كل أفتى بخير مما هو أهله، و لكني قد حصل لي-أخوتي- ما أغناني عن أحكامكم، و كفاني الحاجة إلى فتواكم، ذلك إذ أني و بعد أن طال الحوار و الجدال و السجال بيني و بين أخي و سيدي أبي مالك حول الشاي، طلبت منه الاحتكام إلى حكم العدول و النزول عند رأي الثقات و أبناء الأصول، و سميت له أبا مروان فأبى، أصابني هم و غم و حزن، و ضاقت علي الأرض بما رحبت و زعزع إيماني بالهيل و النعنع و الليمون، فوسوست لي نفسي أن قم فاصطنع لنفسك إبريقا من الشاي المنكه، تقوي به إيمانك و تثبت به ما قد ضعضع من عقيدتك، فلجأت إلى موضع طعام أهلي فوضعت سخانة الماء على النار، و جلست على كرسي قريب أنتظر غليان الماء و دنو أجله،فأخذتني سهوة و حلت بي شبه كبوة، فرأيت فيما يراه النائم -خيرا اللهم اجعله خيرا- رأيت نفسي و قد اتخذت لنفسي مجلس لهو و سرور، و قعدت فيه متكئا أحتسي أقداح الشاي المنكه، فمرة بهيل و أخرى بليمون و ثالثة بنعنع، و بينما أنا أعد الرابعة بالقرفة، إذ بي أفاجأ بثلاثة نفر يقبلون علي و يدخلون مجلسي على عجل، فتمعنت وجوههم فإذا هم رجل بعمامة و ثوب أبيض هو ابن المقفع، و آخر ببذلة أميرية و طربوش هو أستاذنا الرافعي - عليهما رحمة من الله - و الثالث لم أتبين ملامحه جيدا، غير أني لأظنه من هيئة سلاحه ( ساطور جزاري الإبل ) الشيخ المجاهد زعيم الكتائب أبا راتب الدوماني زاده الله من لدنه قوة و نصرا، فما إن دخلوا علي حتى أمسكوا بي مسكة غليظة، و دفعوا بأقدامهم ما كنت أحتسي من الشاي المطيب، و شرعوا في تعنيفي و تأديبي فقالوا:"أيا صفيقا لسانه عجيبا أمره، أتعاف الشاي الأصيل، و تلتفت إلى مستغرب التنكيه و التتبيل، أما علمت أن رجاء الأمور لا يكون بزخرف القول و لكن بصحته حتى قلت ما قلت و فعلت ما فعلت، لا و ما تكتفي بهذا بل و تزعج أرواحنا في نعيم مستقرها بذكرك لنا في معرض شهادة الزور و قول المنكر، ثم ما شأنك أنت بكليلة و بدمنة و غيرهما من الدواب و ما أنت من علم أخبار الدواب في شيء، أو تزعم أيضا أن الله اختصك بنسخة من حكاياتهما عتيقة نادرة ؟! و ما يختص الله إلا الأنبياء و ما يميز إلا الرسل و ما أنت بهذا و لا أنت بذاك، أستكبرت في الأرض و علوت فيها ؟! أاستكبارا في الأرض ومكر السيئ و لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله".
ثم إنهم عمدوا إلى سخانة من الشاي المغلي كانت قريبة و أرادوا أن يصبوها فوق رأسي فصرخت فيهم أن ... لااااااااااااااااه ... فأفقت لتوي! فوجدت لجسمي عرقا غزيرا أسبح فيه كأنما قد صب فوق رأسي ماء مغلي فتعوذت بالله من شر الشيطان و من شر نفسي و علمت أنما رأيت رؤيا حق، و أن هذا ما وعدني به أبو مالك قد جعله ربي حقا، فقمت من فوري إلى موضع الهيل و القرفة و النعنع و الليمون في المطبخ أريد إحراقها أو إتلافها فذكرت أنها نعمة من ربي ما يكون لي أن أفرط بها بل أن أضعها في موضعها فعدلت عن ذلك، ثم إني عمدت إلى كتابة هذا الكتاب إليكم و إلى مولانا و سيدنا أبي مالك أستميحه به عذرا و أرجوه به غفرا، فلم يعد لي من دنياي بعد اليوم أمنية إلا أن ألقى أبا مالك فأقول له: تالله لقد آثرك الله علينا و إن كنا لخاطئين. فيجيبني: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين.
و بعد فإن هذه عاقبة من تسول له نفسه الوقوف في وجه أبي مالك، و العاقل من اعتبر بمصيبة غيره فاعتبروا يا أولي الأبصار.

شاي (7)

قال أبو مالك:
السلام على العقلاء أما بعد: فإن أبا مروان رجل مطعون في عدالته ليس بثقة ولا ضابط، وقد قرأت في كتاب الجرح والتعديل في رجال الطب لمؤلفته، الشيخة بنت الشيخ، سلوى الشيخ، أن صاحبك هذا لا يؤخذ بحديثه وأنه ما جاء في سند رواية إلا عدها أولو العلم مكذوبة أو ضعيفة، وأن أعظم ما يؤخذ عليه أنه صديق لك!
أما كليلتك ودمنتك فلعمر جدي إن هو إلا كتاب رماه لك إبليس وزينه لك ليكون لك فتنة تزيدك غياً وبعداً عن شرب الشاي الأصيل.
وأنبئني أتحسن القراءة حتى تقرأه أم أنك تكتري من يقرؤه لك؟ وهل تفهم ما فيه من معان أم أنك تحفظ ولا تعي وتقرأ ولا تدرك ؟ وخبرني هل تعلم علم الاصطنلاج في الشاي أو مهارة شربه بطريقة النوسريين؟ وهل سمعت عن العرابشة والبراخشة وكيف يصنعون الشاي ؟ فما أظنك إلا جاهلاً بهذا. وهذا آخر ما أقوله فإن أبيت نبذ الهيل فجد لك حكماً غير ذاك أو فاسكت لأن نفسي عافت المراء في مسلمات الأمور.

شاي (6)

السلام عليكم في البداية لا بد لي من أن أجيب على الأسئلة الكثيرة التي وردتني و لا تزال تردني من بعض الأصحاب و المخلصين-و ما أكثرهم- يستفسرون فيها عن نسختي النادرة من كتاب كليلة و دمنة و يطلبون مني ذكر حقيقتها و بيان أصلها، فأقول لكل من بحث أو سأل لا تطيلوا البحث عن هذه النسخة فهي وحيدة عصرها و فريدة زمانها و كما قلت لكم فليس مثلها عند أحد، و قد اختصني الله ربي بها و آتانيها من غير تقدير مني ولا تدبير، فإليك أتوجه بالحمد ربي إني لما أنزلت إلي من خير فقير، و من عجيب خصائص هذه النسخة أني ما شئت من مثل إلا وجدته فيها فلما كان الأمس و رأيت من رد أخي أبي مالك الأخير علي و استوفيت قراءته، رجعت إلى نسختي القديمة لعلي أجد فيها بيانا لمثل أبي مالك، فأصبت منها هذا المثل:
قال دمنة: و من أعجب العجب يا كليلة، أن تجد فلانا من الناس يداخله العجب و الغرور، فيجترئ على من هم أعلى منه مقاما و أرفع منزلة، فما مثله حينئذ إلا كمثل ابن عرس العظيم.
قال كليلة: و كيف كان ذلك؟
قال دمنة: يحكى أنه كان فيما مضى أجمة عظيمة كثيرة الشجر و الثمر، فيها من الوحوش و الدواب من كل صنف و نوع، فمنها ما هو سارب بالليل و منها ما هو سارب بالنهار. و كان فيها أيضا حيوان صغير من بنات عرس، و عادة بنات عرس كما تعلم أن تهجع في النهار، فلا تخرج من أوكارها إلا ليلا، لتبحث عن شيء تصيبه طعاما من خشاش الأرض و مستقذر الحشرات. قيل فمر على الأجمة يوما نهار مطير، جادت به السماء على الأرض أيما جود، فتسرب بعض من الماء إلى وكر صاحبنا ابن عرس، فأزعج وصولها إليه منامه و أيقظه في غير وقته، فلم يجد بعد ما طاف وجاره بالماء إلا أن يخرج منه و يصعد إلى سطح الأرض. فلما أن خرج وجد الغمام قد انقشع، و الشمس قد أشرقت بنورها على الأرض، و أوشكت على الغروب، فرأى لكل شيء حوله من عظيم الظلال ما لم يعرفه من قبل، فنظر فوجد لجسده أيضا ظلا عظيما قد ارتسم على صخرة كبيرة من خلفه، فراعه عظم ظله، و داخل الغرور نفسه، فقال : أواااه ...!! أغفلت عن قدر نفسي و عظم شأني كل هذا الوقت ؟! إن كان ظلي وحده كهذا فكيف أنا إذن؟! و يا عجبا لعظم ذيلي و كبر حجمه، لعمري إنه لا يكون ذيل كهذا إلا للعظماء و الكبراء، و إلا فما بال الدببة ما لها من ذيل! تالله إن ذيلا جبارا كذيلي لينوء حتى بالدببة و لكني ألوح به في خفة و رشاقة دون أن يأخذني في ذلك أدنى نصب أو تعب. ثم إن الغرور و العجب كبرا في نفسه و عظما حتى وقع فيها أنّ ما هو إلا أسد من الأسود أو سبع من السباع، فقرر أن يرتحل عن أرضه ليلتحق بأرض (قومه) من السباع، فغذّ المسير من فوره حتى وصل إلى جماعة من السباع مستوطنة حول البحيرة، فلبث معهم حينا، يأكل من طعامها و يشرب من شرابها. غير أن معدته بعد أيام لم تعد تحتمل أكل اللحم و طحن العظام، و حنت إلى طعم الحشرات و مستحقر الدواب، فأجمع أمره على أن يحمل قومه من السباع على نبذ اللحم و أكل ما تيسر لهم من خشاش الأرض و حشراتها، فوقف فيهم خطيبا فقال: "إليّ إليّ يا معشر السباع ... إليّ إليّ ... مالكم يا قومي قد تركتكم خلقة ربكم و فطرته فيكم، أيجوز منكم أن تقتلوا إخوانكم من بني وحش لتقتاتوا من لحومهم، لعمري ما هذا من شيم الكرام في شيء، هلمّوا بنا نعد إلى فطرتنا فنذر أكل اللحم و قرش العظم، و نلتفت إلى أكل الحشرات و الثمار و الحشائش".
فما كان من جماعة السباع حينها إلا أن زأرت بضحك عالٍ منكر، و راحت تتناقل خبر خطبته العصماء تلك فيما بينها أياما و أيام، كنوع من التظرف و التملح، فاشتد الغيظ بابن عرس أشد ما يكون الغيظ و امتلأ جوفه حنقا و غضبا، فاندفع مرة أخرى إلى منبر الخطباء و صاح في السباع: "يا قوم، يا معشر السباع و الأسود، اسمعوا مني ما أنا قائل، أجمتكم هذه حرام علي بعد اليوم إن لم تجيبوني إلى إحدى ثلاث: فإما أن تصدعوا إلي بالتوبة و تقروا بالخطيئة أمام وحوش الأجمة كلهم و دوابها، أو أن تأخذوا على أنفسكم أغلظ الأيمان أن لا تقربوا بعد اليوم لحما قط، أو أن تسعوا في أطراف الأجمة و أصقاع الأرض مبشرين بشرعة أكل الحشرات، و مكفرين بمنهاج أكل اللحم، و إلا ... فلأضربنّكم بذيلي هذا ضربة، لا تقوم لكم من بعدها قائمة، و لا تبقى عندكم بعدها مملكة و لا عاصمة".
ثم سكت دمنة، فقال له كليلة: فما الذي حصل بعد هذا يا دمنة ؟! قال دمنة: لعن الله العجب كيف يودي بصاحبه، لا يزال أهل ابن عرس و عشيرته يبحثون عن مكان قبره حتى الآن! و صارت قصته تلك مضرب الأمثال في كل أجمة و عند كل غابة.
قال كليلة: فعلا صدق من قال: رحم الله امرأ عرف قدر نفسه فوقف عنده.
قلت:
أما أنت سيدي أبا مالك فاحذر أن تجهل علينا أو أن تبغي، فما أنت بالذي يقدر على الوصول إلى سامي منزلتنا و رفيع مستوانا، فإنا لقوم لان لنا الصلب حتى من الحديد، و صغر أمامنا كل عظيم من قديم أو جديد.
و ختاما أقول: و حتى لا تظل الأمور بيننا سجالا بين أخذ و رد، و عطاء و صد، فإني أدعوك إلى الاحتكام إلى من شئت من ذوي الحكمة و العدالة، فإن شئت رأي في من أراه كفئاً لهذا فما أرى إلا أن يكون مجنون الجراحة و مفتون الطب، أخي و سيدي أبا مروان، فإنه أعلم من رأيت بأمور الأشربة و الأطعمة... و السلام على كل منكم.

شاي (5)

قال أبو مالك:
أما بعد: فإنكم قد غركم منا طول حلمنا وطلاوة لساننا، وما دفعنا لذلك لعمري ضعف ولا وهن ولا جبن، وإنما هو الحلم الذي أسكنه الله في صدري وأقره في موضع الأخلاق مني، ولكن الأمر كما قال تلميذنا النابغة:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له .......... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
فمن سل علي لسانه سللت عليه سيفي، ومن هز علي قلمه هززت له حسامي، ألا إن حسامي لباتر وإن نصله لقاطع وإنه لينوء بالدببة لكنني أحمله كما يحمل أحدكم فرشاة أسنانه أو نكاشة أذنه!
وإني يا هذا أعرض عليك إحدى ثلاث فإن أجبت وإلا كلية الطب علي حرام إن لم أصب فوق رأسك سخانة من الشاي المغلي: فإما أن تعترف بذنبك وتقر بخطأك على مسمع من الأشهاد العدول، أو أن تحلف بالله لا تقرب الشاي بالهيل ما حييت، أو تكتب مقالة في ذم الهيل والليمون.
أما ما ذكرته من خبيث أمانيك في أن أسقيكم شاياً فتالله لقد رمت لمس الشهب ومطاولة كواكب السماء، أما علمت أني لا أنفق الدرهم في طلب لذتي فكيف في طلب لذة سواي! وأني أحمّ شهراً إن ضاعت مني ليرة فأنى لك أن تسألني إهدار الليرات وإضاعة الأموال؟ إن للنفقة حموضة بين ضلوعي ورجفة بين معصمي وكوعي.
وخلاصة القول أن الشاي أعز وأكرم من أن يتكلم فيه كل من زينت له نفسه الخوض في فنونه، وقد ناظرت القدماء والمحدثين وأصحاب الملل والأهواء والمتكلمين فما وجدت أشد على النفس ولا أثقل على القلب من كلام الناس في الشاي، فهذه القهوة والكبتشينو فليتكلموا فيهما ما يشاؤون وليذروا الشاي لأرباب الشاي.
اعقل مني أنصحك وأفدك: إنما خلق الهيل للقهوة، والقرفة للكبسة، والليمون للشراب، والنعنع للبن المصفى، وإن وضع أي منها في الشاي تعدٍ على حقيقة الخلق وجوهر الأشياء، وهذه علة ما انتشر في أصقاع الأرض من أوبئة وأسقام، ولو قدر الناس لكل شيء قدره وأعطوه حقه ومستحقه لما رأيت ما ترى اليوم ولما سمعت ما تسمع عن بقاع تسلب فيها يد الموت ألوفاً من النفوس في اليوم والليلة، وتهصر فيها أذرع المرض أضلاع الولدان والمستضعفين. فتب إلى الله وأنب إليه واصدع ببراءتك من مقالك في الشاي عله يغفر لك ويتجاوز عن زلتك، فإن هذا الذنب وإن كان كبيراً أو مخرجاً عن نحلتنا على رأي بعض أشياخنا فالله يغفره إن تبت منه.

شاي (4)

بادئ ذي بدء، لا أجد بدا من شكر أخوتي الذين انبروا للدفاع عني و الذود عن سمعتي بعد ما قرؤوا كتاب أبي مالك إلي، و لكني أقول: أربعوا عليكم يا أخوتي، فما أنا بالذي يحتاج إلى من يدافع عنه، فإن لي في الحق لسانا كالسيف ما خرج من غمده إلا ليقتل أو يجرح، و لا يعرف حين الجد لا أن يهزل و لا أن يمرح، فاسمعوا ما سيأتي مني.
أما أنت سيدي أبا مالك فاسمع مني أحدثك الأمر و أنبئك خبره، و لعلك أنت أكثر من يعرف برائي من لوثة البدع و التجديد و انحيازي عن مستحدثات الأمور و منكراتها إلى شرعة الماضي و منهاج السلف، و إنما ظني أن ما دفعك إلى قولك هذا شيء دون الشيء، و نية خبيثة لا تخرج منك لا بابتغاء حجامة و لا تعمد قيء، و لعلي قد وجدت مثلا من حقيقة نيتك و خفي مقصدك في حكاية كنت قد قرأتها في سالف عهدي في كتاب كليلة و دمنة، في نسخة نادرة منه عتيقة لا أعرف اليوم أحدا على وجه البسيطة يملك مثلها غيري، ورثتها عن شيخي الرافعي رحمه الله.
قال كليلة: هلا أخبرتني يا دمنة عن مثل هؤلاء القوم الذين ينعتون كل ما لم يوافق هواهم بالبدعة المستنكرة و المستحدثة المستنفرة؟
قال دمنة: فذاك مثل ثعلب الكرم الدوماني.
قال كليلة: و كيف كان ذلك؟
قال دمنة: زعموا أنه كان بأرض كذا من أطراف دمشق ثعلب قليل الحيلة ضعيف الجسم، و كان له صاحب من بني جنسه، لا يكاد يفوقه في العقل و لا في الجسم شيئا، قيل فجازا يوما على كرم عنب كثير الثمر عالي العريش، قد أثقلت أغصانه بأطيب عناقيد العنب الدوماني مذاقا و أجملها لونا، فلما أن رأى هذا الثعلب ما رأى منها و ذكر ما لم يكد ينساه من شدة جوعه و طول صومه، قرر أن يحتال لنفسه و لصاحبه بشيء من هذه العناقيد فقال لصاحبه: هل لك يا أخي في شيء من هذا العنب؟ فأجابه الآخر: و مالي و العنب؟! و هل مثلنا من يأكل عنبا؟ قال: ولم لا؟ أما علمت أن في العنب فوائدا جما، و أنه خير طعام أهل الجنة؟ ثم إنّ من فعل به الجوع ما فعل بنا ليأكل حتى من أوراق الشجر! قال الآخر: أي لعمري و عمر أبي قد أصبت، فابتغ لنا إذن بعضا من هذا العنب، فأنت ترى أن لا حول لي و لا قوة في ابتغاءه، و هو ما هو عليه من العلو و بعد المنال. قال: و الله إنك لأشقى بني وحش و أعجزهم! انظر يا قليل الحيلة كيف يكون التدبير.
قيل و شرع ذلك الثعلب يقفز و يثب، و يثب و يقفز، عله يطول من العنب شيئا، لكن دون أن يقدر على ذلك من شيء، حتى هدّه التعب و أضناه اشتداد الجوع فالتفت إلى صاحبه و قال: قم بنا يا أخي فوالله ما نبغي من هذا الثمر شيئا. قال الآخر: عجبا! .. أوما ذكرت لي توا طرفا من طيبه و حلاوته! فما بالك الآن؟ قال: إنما ذكرت لك حلاوة العنب الدوماني و طيب طعمه، أما هذا الذي تراه فما هو بالعنب، إنما هو الحصرم الحامض لمّا يجعله ربي عنبا بعد.
قال دمنة: فهذا مثل من لا يقدر على شراء مطيبات الشاي فيزعم أنها مفسدة لطعمه ممحقة للونه.
قلت: فاحذر يا سيدي يا أبا مالك أن تكون حقيقة قولك كحقيقة قول الثعلب، فإنك عندها لن تجد مناصا ولا مهربا من الإقرار بضرورة المنكه في الشاي، بل و ربما لن يسقط عنك حينها مغبة قولك إلا أن تبتغي لي و للقراء طقما من الشاي المحلى المنكه تجعله تكفيرا لما سبق منك من أمر خطيئتك، و حلوانا لما قد سبقتنا إليه من شأن خطبتك.

شاي (3)

قال أبو مالك:
من شيخ الإسلام أبي مالك إلى نائل إمام المبتدعة، فقد جئت يا هذا بمنكر من الأمر عجيب، وما أراك إلا غرك جهل عامة الناس فرحت تسمي المكروه مستحبا، ولعلك ظننت أنك إن تكلمت خيراً في استقباحك لأشربة الفرنجة فإنك تخدع الناس بهذا المنكر العظيم والإفك المبين، حدثني جدي أن ذواقة الشاي في بلدنا أبا عزو قال: "إياك ووضع شيء في الشاي فإنه سام للبدن". فالشاي ما كان فيه شاي وسكر وماء، أما إن خالطه شيء من القرفة أو النعنع أو الهيل أو الليمون لم يعد شايا، بل غدا شراباً لا تستسيغه إلا ألسنة الذين سرت فيهم لوثة حب الجديد ونبذ الماضي العتيد، وقد قلت فيك شعراً فاسمع:
انتبه يا صــاح واحذر ...... إن لـون الـشاي أحـمرْ
لا تضع في الشاي أخـ ..... ـلاطاً سوى ماءٍ وسكرْ
نــائــلٌ نــادى بــأمــرٍ ...... مـفـسـد للـنـاس مـنـكـرْ
تب إلى الرحمن إنَ ..... الذنب في ذا الشهر يغفرْ

شاي (2)

قلت:
شكرا لك سيدي أبا مالك، لعمري قد كفيت و أوفيت، و تالله قد نورتنا بكلامك أيما تنوير، و أفدتنا أيما إفادة، فحديثك الحلو عن الشاي، لا يصدر إلا عمن قد أنهى لتوه شرب أربعة أقداح متتالية من الشاي الأسود الأكرك العجمي.و لكن دعني - حفظك الله - أزدك من الشعر بيتا.
جاء في الأثر ((حبة هيل في الشاي خير من السفرة و ما عليها)) و هذا القول على ما ذكر فيه من انقطاع السند و ضعف الرجال، إلا أن فيه من منطق القول ما يجعله أهلا للأخذ به و العمل بمقتضاه.
فإضافة النكهة إلى الشاي تجعل من لحظات احتسائه أحلى لحظات العمر و أهنئها، فالشاي مع حب الهيل يشحذ الهمم و يشد الحيل،و يحرك في الأبدان قوة و نشاطا كنشاط الخيل، و يذهب عن النفس تعب النهار و نعاس الليل.
و لا تقتصر النكهة في الشاي على هذا، فالشاي مع وريقات خضراء من النعنع، خير الشراب عند الفلاح في الحقل و عند العامل في المصنع، لا يتركه لا في المنزل ولا في المستودع، يحبه الجميع ... من الطفل الصغير إلى الشيخ الأصلع، و يحكى أنه يمنح النفوس اندفاعا كاندفاع المقذوف من فوهة المدفع.
أما الشاي مع عصرة ليمون، فهو سر العقل المنظم و التفكير الموزون، ولا يخشى المرء بعده لا هما ولا غما ولا هم يحزنون، فلا عجب إذن أنه الشراب الذي يفضله الإفرنج و خاصة البريطانيون. و احذر - أصلحك الله - أن تنجذب إلى هذه النكهات الجديدة التي تنتشر في السوق هذه الأيام، و شرها مكانا و أمجها طعما هذا البلاء المعبأ في علب التنك المسمى بالآيس تي أو الشاي المثلج، و المنكه بالليمون و ثمر الدراق، فإنه بدعة سيئة منكرة ما سمعنا بها في أبائنا الأولين، ولا يعلم كنهها و محتوياتها إلا الله و صاحب الشركة المنتجة لها، و إني لأكاد أجزم أن ليس فيها من الشاي إلا الاسم. فحمانا الله و حماكم من مشروبات هذه الأيام التي ما فيها من طبيعة الأصل و طيب المنبت شيء، و إنما يجذب الناس إليها أنها طلعت علينا من بلاد الفرنجة. فعليكم بالشاي أسوده و أخضره فهو ما كان عليه واقع السلف الصالح رحمهم الله و رزقنا حسن اتباعهم.

شاي (1)

قال أبو مالك:
مالي أراكم فترت همتكم وكسلتم عن وصف فنون الطبخ وألوان الطعام في شهرنا المبارك؟ اليوم سأصف لكم طريقتي ومنهجي في عمل الشاي....لا تعجبوا فالشاي لا يحسن صنعه كل من يدعي.
ضعوا سخانة الماء على الموقد بعد أن تملؤوها بماء نقي، و حبذا لو كان هذا الماء من بقين، لا تشتروا القوارير فإنها غالية الثمن سريعة النفاد لا بركة فيها، ولا تنخدعوا بالسيارات التي تجوب الشوارع وتبيع الماء على أنه من بقين فإن أكثرهم كاذبون، حدثني من أثق بكلامه أنه شهد مشادة بين اثنين من بائعي الماء المنسوب إلى بقين وأنه سمع أحدهما يقول للآخر: "إن لم تبتعد من هنا فسأخبر أهل الحي أنك تجلب الماء من (أوتايا)" فأجابه الآخر:"كأنك تجلب الماء من غيرها!" وأوتايا لمن لا يعرفها قرية في ريف دمشق ذهبنا إليها أيام معسكر صف العاشر لنكنس شوارعها، ولما أبينا أن نفعل ذلك لطمني أستاذ العسكرية على خدي الأيمن.
وبعد أن يغلي الماء ارفع السخانة عن النار، ثم ائت بإبريق للشاي نظيف ضع فيه عيار السكر؛ وعيار السكر كما أحبه هو كأس من كؤوس الشاي مليئة بالسكر لكل عشر كؤوس ماء أي نسبة السكر إلى الماء 1/10 وهذا العيار رغم أني إحبه إلا أن الكثيرين ينعتون شايي بالحلو وأنه إلى القطر أقرب منه للشاي، ثم تسكب الماء المغلي فوق السكر في الإبريق ثم تعيده إلى الموقد وتنتظر حتى يغلي غلية أخرى، ثم أطفئ النار وضع فيه ملعقتين من ملاعق الشاي فيها أوراق خشنة ثم ضع غطاء الإبريق عليه وانتظر خمس دقائق، ثم صب في أقداح واشرب هنيئاً مريئاً.
واعلم أعزك الله أن الشاي أطيب ما يشرب بعد أكل الدسم وأثناء الاضطجاع للاستراحة من جهد المضغ والطحن والبلع، وأن غمس الكعك بالشاي يذهب نكهتها ويجعل من حولك ينظرون إليك كأنك صبي صغير، وأن الشاي دواء للنعاس أثناءالدراسة، وأنه خير قرى للضيوف في حال لم تجد ما تقدمه لهم، وأن ظروف الشاي ليست بشيء، وأن النكهة كل النكهة في الأوراق الفرط، وأن الشرب بفناجين الشاي الكبيرة ألذ من الشرب بالكؤوس الصغيرة، وأنه من تعشى ولم يتشيّا فكأنه لم يتعش شيا، وأن الكأس الأولى تغسل بقية الأكل في الفم، والكأس الثانية تنظف الحلق والمعدة وما جاورها من الأحشاء والمصران، والثالثة تصعد إلى الدماغ فتفعل فيه الأعاجيب من همة ونشاط وقوة، وأن الرابعة "تجيب الكيف".
وينبغي على العاقل أن يعلم أن فضل الشاي على القهوة كفضل الدماغ على سائر الأعضاء، فالقهوة تطيل السهر وتورث الأرق والقلق، وهي مدرة للبول فلا تكاد تخلع نعلك من الذهاب للكنيف والعودة منه، إلا إذا ركبت قثطرة فعندها تستريح، وفي هذه الحالة فاحرص على أن تكون قثطرتك من نوع فولي فهي أطول بقاء وأقل إزعاجاً، أما الشاي فيوفر عليك المشقة والنفقة، ولو علم الناس ما في الشاي من فوائد لرأيتهم يشربونه في المدارس والجامعات والطرقات، ولو علموا ما في القهوة من مضار لأهريقوها في الكنف والمستراحات، وإن من يزعم أن الشاي يضيع الحديد الذي تستخلصه من اللحم فقل له إذا وجد اللحم في بطوننا فليضيع منه ما شاء من حديد، ومثل ذلك أن رجلاً اشترى غلاماً فأراد صاحبه أن يتبرأ من عيبه فقال "إنه يبول في الفراش" فقال الرجل " إن وجد فراشاً فليبل فيه"... والسلام عليكم.

شمقرين

أخبرني محدثي و هو عندي الصادق اللسان، الطاهر القلب، و من لا أشك يوما بصدق حديثه و لا حسن نيته، أن رهطا من أساتذة الجامعة في إحدى كليات الطب غير بعيد من هنا،اجتمعوا يوما يتذاكرون هموم المهنة و مشاق العمل فقال أحدهم:
و أكثر ما يثقل على نفسي، و يضيق به صدري، هو استنكاف الطلاب و الطالبات عن حضور دروسي و الاستماع لمحاضراتي، و لقد أجهدت ذهني مرارا في محاولة معرفة سبب استنكافهم ذاك، حتى كدت أشكك في كفاءتي و قدرتي على التدريس، فصارت نفسي تحدثني أحيانا أن لربما هو شح معلوماتي أو قدم عهدها مثلا، أو لعله افتقاري إلى مبادئ الإلقاء و أساليب التدريس، أو ربما هو عدم استعانتي بوسائل الإيضاح من الصور و المقاطع و العروض التقديمية، أو لأن دراستي شرقية و شمس العلم اليوم غربية أو لأن...
فقاطعه أستاذ آخر: آااه كفاك كفاك سامحك الله، فوالله ما هو هذا ولا هو ذاك، إنما هو هذا الجيل الفاسد الذي لا يهتم بحكمة و لا يأبه بمعلومة، ليست العلة فينا فنحن خير من عليها، و إنما العلة في بلادة الطلاب و ضآلة تفكيرهم و لا ريب.
فلما انتهى بمحدثي القول إلى هنا التفت إليه و قلت له: لطالما عهدت هذا الرأي عن هؤلاء الأساتذة فلست أستغرب ما تخبرني به اليوم، فما الجديد؟
قال: الجديد أني أريد أن أظهر لهؤلاء الأساتذة الدليل القاطع على سبب فشلهم و فساد أسلوبهم.
قلت: و كيف ذلك؟
قال: سأعمد إلى تصوير دروسهم الفارغة بكاميرة الفيديو أولا، ثم أصور بعضا من دروس أستاذتنا القديرين التي يؤمها عدد غفير من الطلاب أيضا، حتى إذا اجتمع لدي من هذا و من ذاك ما يقيم الحجة و يدفع الشبه، عرضته على الفريق الأول ليروا أين تكمن العلة و من أين يأتيهم النقص، فقد قالت العلماء: لا يعرف الشيء إلا بضده.
قلت: أما نيتك هذه فهي مبادرة جميلة و همة عالية تحمد عليها، وأما إن سألتني عن جدواها فإني أقول لك إحفظ عليك جهدك و وفره إلى ما ينفعك، فإن أساتذتك أولئك لن يقتنعوا أبدا أن العلة تكمن، أو حتى يمكن أن تكمن في أسلوبهم أبدا، فقد أشربوا في قلوبهم - كغيرهم من البشر- فكرة لوم الغير على خطأ النفس، و إني لأجزم أنك حتى بفكرتك هذه لن تستطيع معهم شيئا.
قال: و ما يدفعك إلى هذا الجزم.
قلت: خبرتي بطبائع البشر و آفات القلوب، و لدي إن شئت على ذلك أدلة و أمثلة.
قال: قد شئت فهات ما لديك.
قلت: إذن فاسمع.
و رجعت كعادتي – و هي عادة ورثتها عن أستاذي الرافعي - إلى نسختي الخاصة من كتاب كليلة و دمنة، التي اختصني الله بها، فلست تجد مثليها عند أحد، فأصبت فيها من قول دمنة:
و من عجائب النفس يا كليلة، إيمانها التام بكمالها المطلق، و بعدها عن النقص و الخطيئة، و إنك إن بذلت كل البذل في محاولة ثني المرء عن إيمانه بنفسه فلن تجني بعد طول الكد و العناء إلا كما جنا صحب شمقرين الساحرة منها.
قال كليلة: و كيف كان ذلك؟
قال دمنة: يحكى أنه كان في أرض كذا من بلاد فارس قرية صغيرة منعزلة، و كان أهلها قوما بسطاء مساكين لا يملكون من علم الأرض شيئا، و كانوا لا يقدمون على عمل شيء من أمور حياتهم كبر أو صغر إلا بعد مشورة الكهنة و السحرة و أهل الشعوذة.
و كان في تلك القرية ساحرة عظيمة، يقال لها شمقرين، قد اجتمع لها من علم الكهانة و الشعوذة و السحر الأسود و تطويع الجن و العفاريت ما لم يجتمع لغيرها في تلك القرية، فكانت تعلو على معشر السحرة كلهم بذلك، غير أن شمقرين تلك كانت أيضا عجوزا قبيحة قميئة منفرة وكأن الله قد جمع فيها من قبح الوجه و من دمامة الخلق ما يجعلها آية للناس و نذيرا للبشر.
قيل فاجتمع يوما سحرة تلك القرية و مشعوذوها في غفلة عن شمقرين، فقال أحدهم:
قد كنا في هذه الأرض سادتها و كبراءها، و مرجع أمر أهلها في كل شاردة و واردة، و صغيرة و كبيرة، لا يزرع الناس و لا يحصدون إلا بأمرنا، و لا يقيمون و لا يرتحلون إلا بمشورتنا، و لا ينامون و لا يستيقظون إلا بعد الدعاء لنا و اللهاث باسمنا، حتى ابتلانا الله بتلك الشمطاء القبيحة شمقرين فأخافت بوجهها الدميم القميء الناس من السحر و نفرتهم من الكهانة و الشعوذة.
و قد كانت الكهانة قبل شمقرين عزا فصارت بعدها ذلا و انكسارا، و كانت الشعوذة دينا فصارت من بعدها كفرا و عارا، و كان السحر مصدر رزق لنا فأحالته علينا ضيقا و افتقارا.
كيف لا و طلعة وجهها البهي كطلعة الغراب في أول الصباح، أو كطلعة الذئب على قطيع الغنم عند الظهيرة إذ أراد أن يرتاح، أو كطلعة البوم في وسط الليل إذا نعب و ناح.
و إنا لن نصبر على وجودها معنا بعد اليوم أبدا، فإما أن نخرجها من بيننا أو أن نصنع في أمرها شيئا.
فقامت من بينهم عرافة خبيثة و قالت: أما خروجها من بيننا فهو أمر لا نقدر عليه، فهي و إن ذكرت ما ذكرت إمام علمنا و كبيرة عملنا، و لنا فيها رغم كل شيء حاجة.
و لكني أرى أن نجعل شمقرين تهتم بشكلها أكثر و تغير من منظرها لتصبح أكثر قبولا بين الناس، فنصبح و قد ربحنا الاثنين و لم نخسر شيئا.
قال السحرة: نعما الرأي هو، فكيف التنفيذ؟
قالت العرافة: دعوا الأمر لي.
ثم إن العرافة قامت إلى شمقرين، و بيدها مرآة و مشط و عدة زينة، فدخلت عليها و وضعت ذلك كله بين يديها، و قالت: هذه هدية السحرة إليك لتصلحي من شأنك و تأخذي زينتك.
قالت شمقرين: و ما حاجتي إلى الزينة و قد حباني الله من الجمال و الحسن ما يغنيني عن ذلك، و إنما خذيها أنت إن شئت فلربما تلزمك، فإني أرى رأسك قد غزاه الشيب، و وجهك قد أغار عليه الزمن.
فقالت العرافة و قد آخذها الغضب: يا دميمة وجهها صفيقة لسانها؛ أأنت حبيت الحسن و الجمال؟! أفلا تنظرين في المرآة لتري وجهك.
فأخذت شمقرين المرآة، فنظرت فيها، فأخذها الذهول برهة، ثم إنها قالت: إخس! .. أيا سحقا لهذا الزمان.. فقد وصل الغش فيه حتى إلى المرايا!
قلت لصاحبي: فاحذر أخي لعل الغش قد وصل في زماننا أيضا إلى كاميرات الفيديو.

بطالة

أحيانا تجمعك الصدف بأناس ذوي عقول نيرة و أفكار عظيمة تستغرب معها كيف لا يزالون يعيشون هكذا دون أن يستغلوا ما لديهم من مواهب و قدرات.
صديقي الأستاذ سعيد مثال على هذا، أعرفه من حوالي أربع سنوات، أي منذ دخولي للجامعة تقريبا، و هو شاب نبيه عاقل، و مع أن عمره لا يتجاوز الخامسة و الثلاثين إلا أن لديه حكمة و ثقافة شيخ في الستين أو السبعين.
كنت دائما أستمتع بسماع أرائه و تحليلاته الملفتة لكل ما يجري حول العالم من أدب و علم و سياسة و اقتصاد، و هو بالمناسبة خريج جامعة دمشق كلية الاقتصاد.
منذ أيام كنت معه في سيارته و كان كعادته يستمع إلى المذياع، إلى محطة إذاعة دمشق. كان المذيع يتكلم و يتكلم و أنا شارد أفكر في أمور أخرى، إلى أن نبهني الأستاذ سعيد و قال لي: اسمع ... اسمع ...
كان المذيع يتكلم عن قانون التوظيف و الهيئة العامة لمكافحة البطالة.
((( ... هذا و يقدر عدد العاطلين عن العمل في سورية بـ 432 ألف عاطل عن العمل ، و يقدر القادمين إلى سوق العمل سنويا بين 150 و 300 ألف شخص ، و تحتاج سورية إلى نمو اقتصادي بمعدل 6 في المئة سنويا حتى تستطيع استيعاب هذا العدد...)))
قلت: معقول ؟! .. إنها أرقام ضخمة.
قال الأستاذ سعيد: هذه التقديرات الحكومية أما التقديرات الفعلية فهي أكثر من ذلك بكثير.
(((.... و يأتي مشروع مكافحة البطالة الذي يهدف إلى تأسيس فرص عمل دائمة ليساهم في حل هذه المشكلة ، إذ سيقدم للمواطنين العاطلين عن العمل أموالا على شكل هبات أو قروض ، و ستتيح هذه الأموال للمواطنين إقامة مشروعات للتشغيل الذاتي الصغير في إطار مؤسسات عمل صغيرة ...)))
أطفأ الأستاذ سعيد المذياع، و تابع القيادة دون أن ينبس ببنت شفة.
قلت: فعلا المشكلة كبيرة، الزيادة السكانية من جهة و طريقة التعليم من جهة، فالتعليم كما تعرف لا علاقة له بسوق العمل، وإنما قائم على الحفظ والتلقين فقط، وليس على البحث والابتكار.
قال: فعلا الجامعات بوضعها الحالي أصبحت مصنعاً لإنتاج البطالة و منتجاتها لا تجد لها طلباً إلا في سوق البطالة، وطالما بقيت البرامج التعليمية فيها على حالها، واستمرت الجامعات على تخريج نفس المخرجات فإن الأمور لن تتغير، وسيكون الإحباط مستقبل خريجي الجامعات ذوي التخصصات العلمية أو الأدبية الذين يبحثون عن فرصة عمل مناسبة.
أما الزيادة السكانية فلماذا تنظر إليها على أنها سبب المشكلة؟ لماذا لا تنظر إليها على أنها الحل؟ اسمع أحد حكماء الصين ماذا قال حين سألوه: كيف ستطعم مليار فم؟ قال: ولماذا لا تسألوني عن كيفية استفادتي من 2 مليار يد؟!.
قلت: و الله معك حق، أيدي عاملة لا تحتاج إلا إلى من يعطيها طرف الخيط لتبدأ هي في إقامة مشروعاتها الصغيرة.
قال: يا أخي كيف ستستطيع مشروعات فردية صغيرة الصمود أمام المشروعات الكبيرة و نحن في زمن التجمعات الصناعية الضخمة؟؟
المشكلة أكبر من أن تحل بورشة تطريز صغيرة أو معمل شحاطات نايلون! ربما تكون أحسن من لا شيء، و لكنها ليست الحل بالتأكيد.
برأيي يجب أن تعمل الدولة على إيجاد فرص عمل في إطار مشروعات استثمارية كبيرة، مشروعات كبيرة فعليا و ليست مجرد مأوى لموظفين عالة غير منتجين، يعني دون الانتقال من البطالة الظاهرة إلى البطالة المقنعة.
عاد الأستاذ سعيد لصمته، فعلمت أن الحديث قد انتهى، فسكت أنا بدوري و تابعت تأملي للطريق.
فجأة خفف الأستاذ سعيد السرعة، و نظر في المرآة، ثم قال: ساحة العباسيين حدا نازل؟؟
قلت: نعم على اليمين بعد إذنك.
نزلت ......... و نظرت إلى الميكروباص ( جوبر مزة استراد ) الذي يقوده الأستاذ سعيد يتكسب منه رزقه منذ سنين، فعلمت أنه نسي أن يحدثني عن نوع آخر من البطالة، البطالة التناقضية، البطالة التي تجد فيها الرجل المناسب في مكانه غير المناسب!.

حب في آخر الخط

كم هي جميلة تلك السهرات الصيفية، تلك الجلسات اللطيفة تحت ضوء القمر، و النسيم العليل يدغدغ شغاف القلب و يحرك فيه مواجعه، و الله لا أمل هذه السهرات مهما تكررت.
هل تعرفون تلك الحديقة الجميلة في آخر الخط؟ آخر خط المهاجرين، على سفح جبل قاسيون ... و لو! ... حديقة ( النيربين ).
لطالما كنت أقصدها صيفا أنا و صديقي، و نجلس فيها ساعات و ساعات، نجلس و نسلم أعيننا لسحر المشهد، سحر مدينة دمشق التي تمتد على مد البصر، تنفرد كلها أمامنا كقطعة من قماش الدامسكو المبهرج -الذي اشتهرت به- تتطاير على جناح الريح، و أضوائها المتلألئة كأنها حبات الياقوت و الزمرد.
مشهد يثير في النفس أحلى المشاعر ... مشاعر العشق!
آخر مرة كنت فيها هناك كان معي صديقي، كان جالسا بقربي يتسلى بفصفصة البزر، و قضم الفستق، و يحدثني عن نيته في الذهاب إلى ... لا أدري عما كان يتكلم بالتحديد، إذ لم أكن أستمع حقا، كنت في عالم آخر.
كنت أراقب جمال دمشق و أتفرس في ملامحها، أليس هذا جسر الرئيس؟ و هذه الساحة المدورة المضيئة أليست ساحة الأمويين؟ و هذا الشارع الممتد منها هناك.. إنه اتوستراد المزة، و تلك هي كلية الطب ... عجبا ... لماذا يدق قلبي بهذه السرعة ؟!
هل ذكره جمال دمشق بجمال المحبوبة؟ أم أصابه ما أصابه عندما رأى مواطن العشق و مدارج الهوى في كلية الطب؟
قلت لصديقي: هل كلمتك يوما عن قصة حبي؟
قال و هو يبصق قشر البزر: أي حب ؟؟ أنت تحب! كفاك سخفا ..
قلت: اسمع إذن أحدثك عن حبي، فاليوم أبوح لك بسري، و أكلمك عن معشوقتي، كما كان يفعل الشعراء مع أخلائهم ...
"خليليّ ما أحلى الهوى و أمره ...... وأعملني بالحلو منه وبالمر"
آه يا صاحبي من العشق، آه من حلاوته و آه من مرارته، ماذا أقول لك، هل تعرف أني أذهب إلى الكلية لا لشيء إلا من أجلها، إن قرأت فمن أجلها، و إن كتبت فمن أجلها، و إن حفظت فمن أجلها، أدخل الامتحان و صورتها لا تفارق مخيلتي، أعد الأيام يوما بعد يوم، منتظرا اليوم الذي تزف فيه إلي، أحلم بها إذا نمت، و أحلم بها إذا استقيظت، أراها في أحلامي جميلة مضيئة، أرى نفسي يوم يسلمها أهلها إلي، و أحس أني أكاد أطير من الفرح! أسمع عبارات التهنئة من أصدقائي، أرى الابتسامة على وجوههم، أسمع زغاريد أمي و دعواتها لي، ثم أرى نفسي أحملها على يدي و أدخل بها إلى بيتي، أدخل بها إلى غرفتي و أقفل الباب، و أطبع على وجهها الناصع البياض قبلة، ثم ...
توقفت عن الكلام و نظرت إلى صديقي، فإذا هو جامد لا يتحرك، و على وجهه أمارات الدهشة و العجب، قد فغر فاه فسال اللعاب من فمه، و سرعان ما أحس بسكوتي، فمسح لعابه بيده و لعق شفتيه بلسانه ثم قال لي: ثم ماذا ؟؟
قلت: فعلا يا صاحبي .. ثم ماذا ؟!
إنه السؤال الذي يؤلمني التفكير فيه، لا أدري حقا، و لكن أكثر ما أخشاه أن تكون كغيرها، مجرد نزوة عابرة، لا يكون مصيرها بعد ذلك إلا كمصير سابقاتها، مرمية في المنزل كخرقة بالية، أو ربما أكن لها بعض الاحترام باعتبارها الجديدة، فأضع لها إطارا و أعلقها في صدر غرفتي، مع أنها في النهاية ليست إلا مجرد ورقة.
قال صديقي متعجبا: ورقة؟! ... أي ورقة؟ عن ماذا تتكلم؟!
قلت: عن وثيقة التخرج ... الشهادة الجامعية، عن ماذا كنت تظنني أحدثك إذا؟
رمى صديقي آخر ما تبقى في يده من حبات البزر و الفستق و قال لي: قبح الله وجهك، لكن أتدري، لست الملام، الملام هو من صغر عقله و سهر معك، و استمع إلى حديثك التافه،
هيا بنا إلى البيت.