ماذا فعل طلابنا السوريون في سانت جورج؟ و لماذا صرنا نسمع اسم هذه الجامعة يتردد كثيرا هذه الأيام على لسان طلاب الطب الراغبين في متابعة الدراسة في الخارج؟
سانت جورج لمن لا يعرفها، مشفى جامعي طبي بريطاني يقع في مدينة لندن، و قد قبلت هذه المشفى في العام الماضي عددا لا بأس به من طلاب الطب السوريون لإجراء ستاجات تدريبية ضمن أروقتها، حتى ظن البعض أنها الفرع البريطاني الجديد لمشفانا العريقة مشفى المواساة، و سانت جورج اليوم هي الوجهة الأولى التي يفكر طلابنا في التوجه إليها صيفا لإجراء الستاجات الخارجية.
منذ أيام التقيت بأحد الأصدقاء من طلاب الطب، و كان مكشرا مطنبرا على غير عادته فسألته: خير معلم .. ما وراءك ؟! فأجاب: إليك عني يا أبا أحمد، إليك عني، فصاحبك الذي تكلم قد أفطر اليوم على كمّ مرتب، و سدت في وجهه أقرب الطرق إلى العلم و المعرفة. قلت: ويحك! ما القصة ؟ أي كمّ هذا و أي طريق ؟! قال: إنها سانت جورج يا صاحبي، سانت جورج، أما علمت أني راسلتهم و بعثت إليهم طلبا لقبولي متدربا عندهم؟ قلت: بلى قد علمت و كذلك فعل العشرات غيرك فما الجديد؟ قال: اليوم صباحا كنت "أشيّك" بريدي الالكتروني فألفيت في صندوق الوارد رسالة منهم تحمل اسم أميرتهم الليدي ديانا، قلت: الليدي ديانا سبنسر .. أميرة ويلز الراحلة ؟! قال: لا ... الليدي ديانا والتون المسؤولة عن المراسلات عندهم فإذا بها تقول في رسالتها:"عذرا منك، لن نقبل في هذا العام لا سوريين و لا حتى نيجريين" تصور! هذه عبارتها حرفيا لا جرم أن زملائنا الذين تدربوا عندهم هذا العام قد أظهروا من التخلف و التهاون ما جعل إدارة سانت جورج تأخذ عن السوريين صورة شنيعة و إلا فما الخبر ؟! و لقد سمعت أيضا من صاحب لنا يراسلهم هو الآخر أن الليدي ديانا قد ردت عليه بقولها: "للأسف لا مكان للطلاب السوريين بيننا، و أخبر عميدة كليتكم بالنيابة عنا أن تكف عن إرسال الطلاب السوريين إلينا فقد توقفنا عن قبول السوريين" قلي بالله عليك ما رأيك ؟ قلت: و الله يا صاحبي لا أشهد لزملاءنا إلا بالخير، و لكن إن شئت عدت بك إلى نسختي الخاصة من كتاب كليلة و دمنة لأبحث لك فيها عن الرأي، فهي كما أخبرتك لا يصعب عليها مثل و لا تنقصها حكمة. قال: أجل .. هات أسمعنا ما في كتابك هذا. فأخرجت الكتاب العتيق من حقيبتي و قلبت صفائحه حتى وصلت إلى صحيفة وجدت فيها دمنة يخاطب كليلة و يقول له في بعض قوله:
إنما الدنيا كما تراها يا كليلة، قسمة الله بين البشر، كل بحسب ما يعمل و يجتهد، أو بحسب ما ييسر الله له عن حكمة و تقدير، و إنما تراه من علو شأن أقوام و ارتفاع منزلتهم، و انحطاط بعضهم الآخر و دنو درجتهم، إنما مرده إلى عمل كل منهم و اجتهاده، و تخطيطه و تدبيره و تفكيره، مع تيسير الله و حكمته طبعا، فالعاقل يا كليلة من نظر في عمل الناس من حوله ففكر و قدر، ثم عمل بحسب طاقته و بحسب ما خطط له و دبر، و الجاهل الأحمق من سار في تيار البشر من حوله و اغتر بما آتى الله غيره، و مد عينيه طمعا في أن يكون له مثل ما لهم ،فغفل عن حكمة الله في أن جعل لكل نصيبا، و لكل قدرا، فما مثله حينئذ إلا كمثل أهل قرية كفر البصل.
قال كليلة: و ما ذاك ؟
قال دمنة: زعموا أن قرية من قرى غوطة دمشق آتاها الله أرضا خصبة، و مياها عذبة، فجعل أهلها يعملون في زراعتها، و يدأبون في حرثها و بذرها، فصارت تعطي أكلها كل حين بإذن ربها، من عنب و زيتون و رمان، و مشمش حلو و سفرجل لفان. قيل و كان في طرفها فلاح فقير، قد ابتلاه الله إذ جعل نصيبه من هذه الجنة، أملح الأرض تربة، و أشدها بوارا، و أنزرها ماء، فلم تكن أرضه لتعطيه بعد طول الكد و العناء، إلا من الجمل أذنه كما يقال، فكان الناس من حوله ينعمون بالطيب من الثمار، و هو بأرضه يشقى من ضيق ذات اليد و ارتفاع الأسعار، و ما أشد على نفس المرء من الضيق، إلا أن يكون ضائقاو الناس من حوله إلى لهو و سرور و غناء و تصفيق.
قيل فجلس يوما يفكر، و يجهد عقله بالتخطيط و يحمله حملا على أن يدبر، فلمعت رأسه بفكرة عبقرية، فقال: و الله ما كان لأحد أرض مثل أرضي إلا شقي بها مثل ما شقيت، و أعجزته و أعيته مثلما عجزت أنا و عييت، و إني لا أرى إلا أن أترك زراعة أهل هذه القرية من المشمش و العنب و الرمان، و ألتفت إلى زراعة البصل!، فإنه لا يحتاج لا إلى طيب الأرض و لا إلى كثرة الماء، و هو و إن كان بخسا لا يباع المكيال منه إلا بالدانق و الدانقين، إلا أن الكحل خير من العمى، و الفقر مع القناعة غنى، و القليل كثير إن نُظر إليه بعين الرضى.
و مضى الزمن يحمله عمل أهله، فالزارع يزرع، و الصانع يصنع، و الجندي يحارب بالسيف و المدفع، و صاحبنا الفقير في أرضه يجاهد و يكدح و يدفع. و كانت سنة أرسل الله فيها على مزارع البصل المعروفة في شرقي سوريا دودة خبيثة، تأكل لب البصل فلا تذر إلا قشره، فما سلم منها إلا القليل القليل، و أرض هذا الفلاح الفقير. فإذا بمكيال البصل و بعد أن كان يباع بدانق نحاس، قد علا سعره فصار سعر المكيال منه عشرة دراهم ذهبية و اشتد عليه طلب الناس، و إذا بالفلاح الفقير قد حصل له ما حصل، و بعد أن كانت أرضه بورا صارت تعد بلغة السوق منجم بصل.
قيل و رأى أهل القرية حال هذا الفلاح كيف انقلبت في أيام، و كيف علت منزلته من الفقير المدقع إلى مرتبة الأشراف و الكرام، فما كادت أنفسهم تطيق ذلك، و كرهوا مزارعهم و أشجارهم و ثمارهم، حتى صار طعم البصل المر، أحب إليهم من حلاوة العنب و طيب المشمش، و أضمروا جميعا على احتذاء حذو هذا الفلاح، و قلب مزارعهم من جنات العنب إلى أكفار بصل.
و ضرب الدهر ضربة، فإذا محصول القرية كله من البصل، و إذا بسعر المكيال منه يتهاوى، لزيادة العرض و قلة الطلب، فلا يكاد الكيس الكبير منه يباع بنصف دانق من نحاس، فحل بأهل تلك القرية سوء ما عملوا، و كان فعلهم هذا خرابا على أنفسهم قبل أن يكون خرابا على ذلك الفلاح الفقير. و منذ ذلك اليوم و حتى الآن باتت تلك القرية تسمى قرية " كفر البصل" و صارت تعرف بين الناس باثنتين إنتاج البصل و عجز أهلها و فقرهم.
قال كليلة: و الله يادمنة كأني أراك تخبرني عن مثل طلاب الطب في جامعة دمشق في تهافتهم على مشفى سانت جورج و نسيانهم لغيرها من المشافي و الجامعات في بريطانيا و في غيرها.