الأحد، 6 يناير 2013

حكيم أيام الدولة العباسية



بقلم الحكيم أنس الأسمر المكنى بأبي مالك
تصورت مرة ما كان ليحدث لو عاد بأحدنا الزمن إلى قرون خلت.
قال ابن خنشور :
بينما أنا نائم في داري في أرض المزة من أعمال دمشق في ليلة برد وقر سمعت صوتاً كأنه العويل فانتبهت من نومي وإذا برجل يجلس قدامي ينظر إلي , فامتلأ قلبي فرقاً منه وذعراً وهممت بالصياح فأشار إلي أن كفّ ثم قال أي عام هذا ؟ فلم أدر بم أجيبه وقد ارتج علي فقال هو السابع والعشرون بعد أربعمائة وألف للهجرة , ثم سكت وأطرق وقد تملكني الخوف فيبست أوصالي وانعقل لساني , ثم قال كأنه يكلم شخصاً بجانبه : ألف عام خلفاً , فأحسست ظلمة تحيط بي وتمتد حتى ما عدت أرى شيئاً ثم أحسست خدراً في جسمي فأيقنت أنه الموت فصرت ألتمس الشهادة فلا أذكرها , ثم ما لبثت الظلمة أن راحت تنقشع وعادت إلي الروح شيئاً فشيئاً , ونظرت حولي فإذا أنا وسط شارع عريض في جانبيه دكاكين وفيه أناس يروحون ويجيئون وقد ارتدوا العجائب فعلى رأس الواحد منهم عمامة وعلى سائر بدنه طيلسان , وكنت أرتدي من لباس العامة من أهل دمشق بنطالاً وقميصاً ذا أزرار , ورحت أقلب النظر فيمن حولي مندهشاً وهم يتغامزون إذا مروا بي حتى سمعت جلبة من خلفي فنظرت فإذا صبيان يلحقونني وقد حسبوني مجنوناً فركضت لا أدري ما أصنع وهم يصيحون ورائي بالمستقبح من الألفاظ والمرذول من الأقوال وأنا أنظر في عيون الناس مستنجداً فأجدهم بين ضاحك علي ساخر بي أو متفرج غير مبال . حتى رأيت رجلاً يبدو عليه الصلاح والوقار فارتميت بين يديه وأنا لا أعقل ما أقول فصاح بالصبيان فتفرقوا , وأقبل يهدئ من روعي حتى أنزل الله السكينة في قلبي واستقر مني ما كان مضطرباً , ثم إنه دعاني إلى داره......
فأدخلني إلى غرفة منزله وكانت واسعة مزخرفة وأمر لي بطعام وشراب وقال إني تاركك هاهنا حتى تأكل وتشرب وتنام فإن لنا شأناً بعد العشاء , وخرج. ثم دخل غلام صبيح الوجه يحمل أطباق الطعام فوضعها ثم جلس وقال لي كل , فنظرت فإذا طعام بمرق فلما أن ذقته استطبته فقلت ما هذا فضحك حتى فحص برجليه ثم قال لك من السنين أكثر من ثلاثين ولا تعرف السكباج؟ فأسكتني جهلي حتى فرغت وشبعت , ثم سألت الغلام : من سيدك؟ فقال أولا تعرفه ؟ إنه الهانئ بن محمد نديم أمير المؤمنين وصفيّه , فقلت أوتهزأ بي يا غلام ؟ قال لا والله وما أخبرتك إلا حقاً , فقلت أستحلفك بالله أين نحن وما هذه البلاد ولم تتكلمون بالفصيح ؟ فضحك ثم قال صدق سيدي إذ قال عنك مجنون . فدهشت وقلت : أوقال عني هذا ؟ وما رأى من جنوني؟ فقال ثيابك العجيبة وطريقتك الغريبة وجهلك أنك في بغداد , فقلت تعست! أنحن في بغداد ؟ اليوم كنت في الشام , ومالي أرى بغداد ليست كبغداد وكلامكم ليس ككلام أهل بغداد ولا ثيابكم كثيابهم ولا أسواقكم كأسواقهم ؟ فضحك ثانية حتى كاد يختنق ثم قال والله إنك لتجيء بالأوابد , وإن الخليفة سيسر بك ولعله يثيب سيدي بكثير من المال , وإني ذاهب الآن فنم ولا يكن في صدرك غم ! ... ثم إني جلست متفكراً وجهدت ألا أنام لكن عيني غلبتني فنمت ساعة ثم أيقظني صوت صاحب البيت أن قم فقد أتيتك بخلعة حسنة وطيب , فالبس وتطيب وهلم ننطلق , ففعلت كما أمرني ومشيت معه فوالله لقد كدت أقع غير مرة لثقل الجبة التي ألبسنيها , وسرت في شارع ليس له رصيف ولا في أرضه"زفت" ولا قطران حتى انتهينا إلى قصر عظيم على بابه حاجب فقال لما رآنا أهلاً بالهانئ , من ذا الذي معك؟ فقال: مجنونٌ , أعزك الله , أُضحك به أمير المؤمنين . فقلت وقد استبد بي الغضب : قبحكم الله أنا مجنون؟ألا إن لي عقلاً راجحاً وقولاً سديداً , وايم الله إنني طالب في جامعة دمشق أدرس علم الطب! فضحكا وقال لي صاحبي لا عليك إنما هي ليلة , ثم فتح لنا الباب فدخلنا من غرفة إلى غرفة حتى انتهينا إلى فسحة عظيمة في وسطها سرير يجلس عليه رجل ما رأيت أجمل منه يكاد وجهه يضيء حسناً وبهاءً , وعلى رأسه عمامة كبيرة وقد لبس فاخر الثياب والنمارق من حوله مفروشة يتكئ عليها رجال قدرت أنهم الندماء, وتحتهم بساط كأنه قطعة روض , ثم سلم صاحبي وسلمت وأُذن لنا بالجلوس.....
وكان الرجال ينظرون إلي شزراً ثم قام صاحبي وهمس في أذن الخليفة ثم عاد فجلس , وما هي إلا هنيهة حتى نظر إلي الخليفة وقال ما اسمك ؟ فقلت وأنا جالس أنا ابن خنشور من أهل دمشق طالب في الطب , فضحكوا فقلت : مالكم؟ أولا تصدقونني ! امتحنوني إن شئتم! فقال أحدهم أنا إسحاق الطبيب وإني ممتحنك فإن كنت صادقاً بزعمك معرفة الطب وإلا جلدناك إن أذن أمير المؤمنين , فابتسم الخليفة وقال قد أذنا. فقال لي إسحاق : أي خلط من الأخلاط الأربعة يهيج إذا حُمّ ابن آدم ؟ فلم أدر ما أقول , وقلت في نفسي إني إذا لم أجبه حضرت السياط , فقلت له : إنه السيتوكين تؤدي زيادته في البدن إلى الحمى , فضحكوا أجمعين , ثم قال إسحاق وهو يصطنع العبوس : فما دواء القرحة؟ فأسررت في نفسي أني إذا قلت لهم الأوميبرال ضحكوا مني , وما أدراهم ما الأوميبرال والرانيتيدين وهذه الأمور الهندداوودية؟ فسكتّ قليلاً ثم قلت : لا أدري فعلاج الأدواء عندنا غير علاجاتكم , ولكن امتحنّي في التشريح ومنافع الأعضاء , فقال من فوره : ماذا تعرف من الأعصاب الصاعدة من المخ ؟ فقدرت أنهم لا يعرفون العصب الشمي والأعصاب الدقيقة فقلت : إنها لأزواج , منها العصب الغليظ المؤدي إلى العين والزوج الثاني ينفذ إلى المقلة , ثم هناك العصب الذي ينقسم ثلاث شعب , وعصب للوجه وآخر للأذن وثالث ينزل إلى الصدر , ولما أن أردت السرد والشرح ظهر على وجه إسحاق الجد وقال ثكلتك أمك من علمك هذا ؟ صف لي عظام القحف! فشرح الله صدري وأقبلت أعرفها له وأسمعه الشرح عن نواتئها وتجاويفها وثقبها حتى وقف وقال : ألا إن صاحبكم ليس بمجنون , وإن وراءه لخبراً , فأمرني الخليفة بالدنو إلى سريره فدنوت وجلست بجواره , ثم أمرني بإخباره حقيقة أمري فقصصت عليه خبري وما كتمت منه شيئاً حتى بدت على وجهه أمارات التصديق وقال ما أظن الذي أرسلك عبر القرون إلا جنياً....
ثم أطرق ساعة ثم قال : صف لنا جامعتك التي تذكرها بأشد من ذكرك أباك وقص علينا كيف تعلمت فيها الطب , فسررت لتصديقه إياي وأنشأت أصف له دمشق وما فيها من أبنية شامخة وطرقات عريضة وجسور معلقة وسرجٌ تجعل الليل نهاراً , أقول ذلك له بلسان يفهمه ولا يستنكره , ثم أقبلت على ذكر جامعة الطب وقلت في ذلك شيئاً كثيراً ذهب عني أكثره وما بقي منه إلا قليل , فمما قلته إننا نأخذ الطب من أناس تعلموه في بلاد الروم , ولعل أكثر ما نقرؤه في العلم يكون بلسانهم , وإن عندنا مارستانين : المواساة والأسد الجامعي , وإن القائمين بأمر جامعتنا متخبطون لا يدرون ما يصنعون , وإنهم يأمرون بأمر ثم ينهون عنه بعد إنفاذه , وينهون عن شيء ثم يأمرون به بعد ابتعاد التلامذة عنه, وإنهم لا يعلمون أي الأمور أقرب نفعاً لصلاح شأن الجامعة , وإذا علموا لم يعملوا , وإذا عملوا أفسدوا العمل ونشروا الخلل ووقعوا في الزلل. والله يا أمير المؤمنين كأن جامعتنا سفينة في عرض البحر لا شراع لها ولا دفة ولا مجاديف , وفيها من الخروق ما يتسع على الراقع وعلى الستين راقعاً. لا يدري أحدنا كيف سيكون مآل أمره وأين سيعمل وماذا سيتعلم , فترى جلّنا يخرجون من بيوتهم مهاجرين إلى بلاد الإفرنج . وقلت غير ذلك كثيراً نسيت معظمه وما أحفظه لا أريد أن أذكره. فتعجب الخليفة ثم قال فكيف حال دولة المسلمين بين الأمم في زمانكم؟ فأشفقت على نفسي فقلت : نحن سادة الأرض , يجبى إلينا خراج الصفر والسود والحمر وخراج أرض وراء بحر الظلمات يقال لها أمريكة , فقال وكيف أدبكم وشعركم ؟ فقلت: فيه سر الفصاحة ولب البلاغة , قال فأنشدني منه شيئاً , فما مر على خاطري غير"سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل" فأنشدته إياها فقال ومن هؤلاء الذين سيطردهم شاعركم من الآنية ؟ أهم جنّ فيقرأ عليهم من القرآن فيخنسوا؟ فقلت لا , بل هم اليهود ملكوا أرضه وغلبوه عليها , فقال أويكونون في آنية الزهر ؟ لعله اسم للغرقد فقلت لا يا أمير المؤمنين بل هو معنى دون معنى له باطن وظاهر فقال دعنا من ذكر الأدب . أخبرني كيف معيشتكم ؟ فقلت نحن في خير حال , في بيت كلٍّ منا خمسون قينة إذا سمعت صوت الواحدة منهن حسبته ثغاء شاة تُنحر أو رغاء ناقة تعقر, غير أنهن يبدين مفاتنهن فلا يأبه الرجل لغنائهن وقد أطرب عينيه فنسي أذنيه , وعندنا من بهائم الركوب ما يسير من غير طعام وشراب مسيرة عشرة أيام ولا يمسه تعب ولا نصب , وعندنا من رجال الشُرط من يمسكك لجرمٍ اقترفته فإذا أعطيته قليلاً من المال أفلتك , وعندنا سوق إماء عظيم , ويعمل العامل منا شهراً واحداً فيكفيه أجره أكثر من خمسة أيام , وظللت أقص عليه من هذه الأخبار وأضرابها وما شاكلها , حتى غضب وقال قم قبحك الله فما أنت إلا مجنون أو كاذب ملفق , فخرجت مسرعاً خائفاً على نفسي حتى إذا صرت في الطريق عاودتني الظلمة التي ألمت بي أول مرة ورجع ذلك الخدر , ثم استيقظت فوجدت نفسي على فراشي في المدينة الجامعية بدمشق.