الأحد، 6 يناير 2013

حكيم أيام الدولة العباسية



بقلم الحكيم أنس الأسمر المكنى بأبي مالك
تصورت مرة ما كان ليحدث لو عاد بأحدنا الزمن إلى قرون خلت.
قال ابن خنشور :
بينما أنا نائم في داري في أرض المزة من أعمال دمشق في ليلة برد وقر سمعت صوتاً كأنه العويل فانتبهت من نومي وإذا برجل يجلس قدامي ينظر إلي , فامتلأ قلبي فرقاً منه وذعراً وهممت بالصياح فأشار إلي أن كفّ ثم قال أي عام هذا ؟ فلم أدر بم أجيبه وقد ارتج علي فقال هو السابع والعشرون بعد أربعمائة وألف للهجرة , ثم سكت وأطرق وقد تملكني الخوف فيبست أوصالي وانعقل لساني , ثم قال كأنه يكلم شخصاً بجانبه : ألف عام خلفاً , فأحسست ظلمة تحيط بي وتمتد حتى ما عدت أرى شيئاً ثم أحسست خدراً في جسمي فأيقنت أنه الموت فصرت ألتمس الشهادة فلا أذكرها , ثم ما لبثت الظلمة أن راحت تنقشع وعادت إلي الروح شيئاً فشيئاً , ونظرت حولي فإذا أنا وسط شارع عريض في جانبيه دكاكين وفيه أناس يروحون ويجيئون وقد ارتدوا العجائب فعلى رأس الواحد منهم عمامة وعلى سائر بدنه طيلسان , وكنت أرتدي من لباس العامة من أهل دمشق بنطالاً وقميصاً ذا أزرار , ورحت أقلب النظر فيمن حولي مندهشاً وهم يتغامزون إذا مروا بي حتى سمعت جلبة من خلفي فنظرت فإذا صبيان يلحقونني وقد حسبوني مجنوناً فركضت لا أدري ما أصنع وهم يصيحون ورائي بالمستقبح من الألفاظ والمرذول من الأقوال وأنا أنظر في عيون الناس مستنجداً فأجدهم بين ضاحك علي ساخر بي أو متفرج غير مبال . حتى رأيت رجلاً يبدو عليه الصلاح والوقار فارتميت بين يديه وأنا لا أعقل ما أقول فصاح بالصبيان فتفرقوا , وأقبل يهدئ من روعي حتى أنزل الله السكينة في قلبي واستقر مني ما كان مضطرباً , ثم إنه دعاني إلى داره......
فأدخلني إلى غرفة منزله وكانت واسعة مزخرفة وأمر لي بطعام وشراب وقال إني تاركك هاهنا حتى تأكل وتشرب وتنام فإن لنا شأناً بعد العشاء , وخرج. ثم دخل غلام صبيح الوجه يحمل أطباق الطعام فوضعها ثم جلس وقال لي كل , فنظرت فإذا طعام بمرق فلما أن ذقته استطبته فقلت ما هذا فضحك حتى فحص برجليه ثم قال لك من السنين أكثر من ثلاثين ولا تعرف السكباج؟ فأسكتني جهلي حتى فرغت وشبعت , ثم سألت الغلام : من سيدك؟ فقال أولا تعرفه ؟ إنه الهانئ بن محمد نديم أمير المؤمنين وصفيّه , فقلت أوتهزأ بي يا غلام ؟ قال لا والله وما أخبرتك إلا حقاً , فقلت أستحلفك بالله أين نحن وما هذه البلاد ولم تتكلمون بالفصيح ؟ فضحك ثم قال صدق سيدي إذ قال عنك مجنون . فدهشت وقلت : أوقال عني هذا ؟ وما رأى من جنوني؟ فقال ثيابك العجيبة وطريقتك الغريبة وجهلك أنك في بغداد , فقلت تعست! أنحن في بغداد ؟ اليوم كنت في الشام , ومالي أرى بغداد ليست كبغداد وكلامكم ليس ككلام أهل بغداد ولا ثيابكم كثيابهم ولا أسواقكم كأسواقهم ؟ فضحك ثانية حتى كاد يختنق ثم قال والله إنك لتجيء بالأوابد , وإن الخليفة سيسر بك ولعله يثيب سيدي بكثير من المال , وإني ذاهب الآن فنم ولا يكن في صدرك غم ! ... ثم إني جلست متفكراً وجهدت ألا أنام لكن عيني غلبتني فنمت ساعة ثم أيقظني صوت صاحب البيت أن قم فقد أتيتك بخلعة حسنة وطيب , فالبس وتطيب وهلم ننطلق , ففعلت كما أمرني ومشيت معه فوالله لقد كدت أقع غير مرة لثقل الجبة التي ألبسنيها , وسرت في شارع ليس له رصيف ولا في أرضه"زفت" ولا قطران حتى انتهينا إلى قصر عظيم على بابه حاجب فقال لما رآنا أهلاً بالهانئ , من ذا الذي معك؟ فقال: مجنونٌ , أعزك الله , أُضحك به أمير المؤمنين . فقلت وقد استبد بي الغضب : قبحكم الله أنا مجنون؟ألا إن لي عقلاً راجحاً وقولاً سديداً , وايم الله إنني طالب في جامعة دمشق أدرس علم الطب! فضحكا وقال لي صاحبي لا عليك إنما هي ليلة , ثم فتح لنا الباب فدخلنا من غرفة إلى غرفة حتى انتهينا إلى فسحة عظيمة في وسطها سرير يجلس عليه رجل ما رأيت أجمل منه يكاد وجهه يضيء حسناً وبهاءً , وعلى رأسه عمامة كبيرة وقد لبس فاخر الثياب والنمارق من حوله مفروشة يتكئ عليها رجال قدرت أنهم الندماء, وتحتهم بساط كأنه قطعة روض , ثم سلم صاحبي وسلمت وأُذن لنا بالجلوس.....
وكان الرجال ينظرون إلي شزراً ثم قام صاحبي وهمس في أذن الخليفة ثم عاد فجلس , وما هي إلا هنيهة حتى نظر إلي الخليفة وقال ما اسمك ؟ فقلت وأنا جالس أنا ابن خنشور من أهل دمشق طالب في الطب , فضحكوا فقلت : مالكم؟ أولا تصدقونني ! امتحنوني إن شئتم! فقال أحدهم أنا إسحاق الطبيب وإني ممتحنك فإن كنت صادقاً بزعمك معرفة الطب وإلا جلدناك إن أذن أمير المؤمنين , فابتسم الخليفة وقال قد أذنا. فقال لي إسحاق : أي خلط من الأخلاط الأربعة يهيج إذا حُمّ ابن آدم ؟ فلم أدر ما أقول , وقلت في نفسي إني إذا لم أجبه حضرت السياط , فقلت له : إنه السيتوكين تؤدي زيادته في البدن إلى الحمى , فضحكوا أجمعين , ثم قال إسحاق وهو يصطنع العبوس : فما دواء القرحة؟ فأسررت في نفسي أني إذا قلت لهم الأوميبرال ضحكوا مني , وما أدراهم ما الأوميبرال والرانيتيدين وهذه الأمور الهندداوودية؟ فسكتّ قليلاً ثم قلت : لا أدري فعلاج الأدواء عندنا غير علاجاتكم , ولكن امتحنّي في التشريح ومنافع الأعضاء , فقال من فوره : ماذا تعرف من الأعصاب الصاعدة من المخ ؟ فقدرت أنهم لا يعرفون العصب الشمي والأعصاب الدقيقة فقلت : إنها لأزواج , منها العصب الغليظ المؤدي إلى العين والزوج الثاني ينفذ إلى المقلة , ثم هناك العصب الذي ينقسم ثلاث شعب , وعصب للوجه وآخر للأذن وثالث ينزل إلى الصدر , ولما أن أردت السرد والشرح ظهر على وجه إسحاق الجد وقال ثكلتك أمك من علمك هذا ؟ صف لي عظام القحف! فشرح الله صدري وأقبلت أعرفها له وأسمعه الشرح عن نواتئها وتجاويفها وثقبها حتى وقف وقال : ألا إن صاحبكم ليس بمجنون , وإن وراءه لخبراً , فأمرني الخليفة بالدنو إلى سريره فدنوت وجلست بجواره , ثم أمرني بإخباره حقيقة أمري فقصصت عليه خبري وما كتمت منه شيئاً حتى بدت على وجهه أمارات التصديق وقال ما أظن الذي أرسلك عبر القرون إلا جنياً....
ثم أطرق ساعة ثم قال : صف لنا جامعتك التي تذكرها بأشد من ذكرك أباك وقص علينا كيف تعلمت فيها الطب , فسررت لتصديقه إياي وأنشأت أصف له دمشق وما فيها من أبنية شامخة وطرقات عريضة وجسور معلقة وسرجٌ تجعل الليل نهاراً , أقول ذلك له بلسان يفهمه ولا يستنكره , ثم أقبلت على ذكر جامعة الطب وقلت في ذلك شيئاً كثيراً ذهب عني أكثره وما بقي منه إلا قليل , فمما قلته إننا نأخذ الطب من أناس تعلموه في بلاد الروم , ولعل أكثر ما نقرؤه في العلم يكون بلسانهم , وإن عندنا مارستانين : المواساة والأسد الجامعي , وإن القائمين بأمر جامعتنا متخبطون لا يدرون ما يصنعون , وإنهم يأمرون بأمر ثم ينهون عنه بعد إنفاذه , وينهون عن شيء ثم يأمرون به بعد ابتعاد التلامذة عنه, وإنهم لا يعلمون أي الأمور أقرب نفعاً لصلاح شأن الجامعة , وإذا علموا لم يعملوا , وإذا عملوا أفسدوا العمل ونشروا الخلل ووقعوا في الزلل. والله يا أمير المؤمنين كأن جامعتنا سفينة في عرض البحر لا شراع لها ولا دفة ولا مجاديف , وفيها من الخروق ما يتسع على الراقع وعلى الستين راقعاً. لا يدري أحدنا كيف سيكون مآل أمره وأين سيعمل وماذا سيتعلم , فترى جلّنا يخرجون من بيوتهم مهاجرين إلى بلاد الإفرنج . وقلت غير ذلك كثيراً نسيت معظمه وما أحفظه لا أريد أن أذكره. فتعجب الخليفة ثم قال فكيف حال دولة المسلمين بين الأمم في زمانكم؟ فأشفقت على نفسي فقلت : نحن سادة الأرض , يجبى إلينا خراج الصفر والسود والحمر وخراج أرض وراء بحر الظلمات يقال لها أمريكة , فقال وكيف أدبكم وشعركم ؟ فقلت: فيه سر الفصاحة ولب البلاغة , قال فأنشدني منه شيئاً , فما مر على خاطري غير"سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل" فأنشدته إياها فقال ومن هؤلاء الذين سيطردهم شاعركم من الآنية ؟ أهم جنّ فيقرأ عليهم من القرآن فيخنسوا؟ فقلت لا , بل هم اليهود ملكوا أرضه وغلبوه عليها , فقال أويكونون في آنية الزهر ؟ لعله اسم للغرقد فقلت لا يا أمير المؤمنين بل هو معنى دون معنى له باطن وظاهر فقال دعنا من ذكر الأدب . أخبرني كيف معيشتكم ؟ فقلت نحن في خير حال , في بيت كلٍّ منا خمسون قينة إذا سمعت صوت الواحدة منهن حسبته ثغاء شاة تُنحر أو رغاء ناقة تعقر, غير أنهن يبدين مفاتنهن فلا يأبه الرجل لغنائهن وقد أطرب عينيه فنسي أذنيه , وعندنا من بهائم الركوب ما يسير من غير طعام وشراب مسيرة عشرة أيام ولا يمسه تعب ولا نصب , وعندنا من رجال الشُرط من يمسكك لجرمٍ اقترفته فإذا أعطيته قليلاً من المال أفلتك , وعندنا سوق إماء عظيم , ويعمل العامل منا شهراً واحداً فيكفيه أجره أكثر من خمسة أيام , وظللت أقص عليه من هذه الأخبار وأضرابها وما شاكلها , حتى غضب وقال قم قبحك الله فما أنت إلا مجنون أو كاذب ملفق , فخرجت مسرعاً خائفاً على نفسي حتى إذا صرت في الطريق عاودتني الظلمة التي ألمت بي أول مرة ورجع ذلك الخدر , ثم استيقظت فوجدت نفسي على فراشي في المدينة الجامعية بدمشق.

الخميس، 14 مايو 2009

كباب (9) ختام القول

ثم بعث لنا ابن خنشور أخيرا هدية مع بعض رسله و كتابا جاء فيه:
أما بعد: فقد ساءنا من أبي مالك قوله فينا: "فأيم الله لأقطعن يدي ورجلي ولأجدعن أنفي ولأسملن عيني بسيخ الكباب إن هو دعانا لأكل شواء أو كردنبل".
فرددنا عليه ببضعة أبيات من الشعر منحولة:
أبـا مالـكْ فلا تعجل علينا ..... و أنـظـرنـا لـنـطـعـمـك الـكـبـابـا
و ثِـقْ دوماً بأني لستُ شحّاً ..... و لا بـخـلاً أؤجـل مـا استطابا
و لكنْ حيرتي قد أقعدتني ..... وليت الـنـصـح يـأتـي و الصوابا
أنائلُ قُــم لإرشادي و نصحي ..... وواجه في سبيلهما الصعابا
و لا تهب الكبابَ و لا القوافي ..... فما حقّ ابن أسمر أن يُهابا
سأعزم من يفوز إلى طعامي ..... و أطعم خاسر الرهن الترابا
انتهى الكتاب.
غير أني كنت قد تيقنت بدوري من بخل ابن خنشور و (جربنته) فأهملت كتابه الأخير و رميته إلى فرسي لتلوكه!

كباب (8)

قال أبو مالك:
بسم الله رب الأنام والصلاة على حبيبه والسلام، أما بعد فقد أتاني الخبر عن بخل ابن خنشور وشح نفسه، واستيقنت أنه لا يطعم الناس إلا الخوازيق! فوأيم الله لأقطعن يدي ورجلي ولأجدعن أنفي ولأسملن عيني بسيخ الكباب إن هو دعانا لأكل شواء أو كردنبل.
هذا وقد برد قلبي بعد أن بلغ به الغضب ما بلغ، وسكنت جوارحي من بعد اضطرابها، بعد أن اتخذ ابن أحمد سبيلاً أقرب إلى الحق- وإن كان لما يلتحق بنا- وأبعد عن الباطل، وإن كان لما يكفر به كما ينبغي لأولي العزم من أتباع الرسل.
ولكني عجبت لأمرك، أمثلك يأتمر بأمر شيخ وينتهي بنهيه؟ أما أنا فما يكون لي أن أتخذ شيخاً وقد آتاني رب العالمين من فضله ما آتاني وعلمني من لدنه ما علمني، وأما ما ذكرتُه آنفاً من سند القول عن أشياخي فهو لتأخذوا عني ولتفهموا قولي. وأكبر ظني أن شيخك الصالحاني من أصحاب (السلتات) وإلا لأبى على نفسه أن يكون (ضيفناً).
حدثني شيطاني أبو سركيس عن الجاحظ قوله "والضيفن هو ضيف الضيف الذي يلتحق به ويتطفل على أصحاب الدعوة".
و قد أعياني- وحق ربي- وصف الشواء بما يستحق في مقام النثر، فلم أجد غير مقام الشعر فاسمع:
ألا حي المشاوي والكبابا ..... وما قـد لـذّ مـن أكـل وطـابـا
وإنْ رجـلٌ دعاك لكردنبلو ..... فـأسمعه الـشتـائـمَ والسبابا
فإن الكردنبل طعام سوءٍ ..... سأهتك عن مساوئه الحجابا
لو استبخرتَه في البيت يوماً ..... لأهلكتَ البعوضةَ والذبابا
ومن يرجو لذيذَ الطعم منه .... كمن في قـفرة لحق السرابا
فدع عنك الطعام سوى شواءٍ .... متى ما لُكتَه في فيك ذابا
فـإن اللـحـم خـيـر الأكـل طـراً ..... ودعـوته أحق بأن تجابا
لعـمـري إن مـنـظـره بـلـيـلٍ.....على الجمرات تلتهب التهابا
لأجمل من محيّا ذات حسنٍ ..... إذا الحسناء أسقطت النقابا
ونزّ الدهن أطيب نكهةً من.... لمى العذراء تسقيك الرضابا
وصوت نشيشه في الأذن خيرٌ ... وأجمل من مواويل العتابا
فحسبي اللحم لا أرضى سواه .... طعاماً أو حساءً أو شرابا
أنـبـتـدع الـطـعـامَ ونـحـن قومٌ ..... جـعـلـنـا كـلَّ مـبـتـدَعٍ يبابا

و جزى الله الطبيب السبيعي خيراً على مناصرتنا والله يشهد أن هواه مع الكباب دون الذي هو أدنى، وأما الحوت والسمك وغيره من طعام البحر فسأمنحكم شيئاً من علمي عنه في مواضيع قادمة مع طريقة طبخه وكيفية إنضاجه، فإن في تعليم الجاهلين ثواباً، وقد بلغني أن الذي يكتم العلم له عذاب أليم، فخذوا عني قبل أن أغادركم إلى دار البقاء .... إلى دارٍ خيرٍ وأبقى ... إلى قصورِ ياقوتٍ ومرجان، ولحمٍ وفاكهة ورمان، وحورٍ عينٍ حسان (إيييييييه) ورضوان من الله أكبر، والسلام عليكم.

كباب (7)

قال أبو مروان:

بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد لله الذي لو شاء لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، والصلاة والسلام على أفضل الخلق المبعوث رحمة للعالمين، وبعد:

فإني بعدما طال بكم المقام، عزمت على أن أسأل أصحاب الرأي والتجربة عن رأيهم في أطايب الطعام، فلجأت إلى جدي، أكرمه الله وأطال في عمره، وقد جمع الله له مع رجاحة العقل طول التجربة، وقد قال أهل الأمثال من الصالحانيين: اسأل مجرباً ولا تسأل "حكيم".
قلت لجدي: أفتنا في الطعام والشراب، أيهما أطيب: الكردنبل أم الكباب؟! فتبسم وأجابني: اعلم يا بني أني طوفت البلاد، وجبت الآفاق، فما وجدت بني آدم يختلفون في شيء اختلافهم في الطعام والشراب، وقد قيل: "كل مما تشتهيه نفسك، والبس مثلما تلبس الناس" ووجدت يا بني أنه ما استطابه أهل مصر من الأمصار لم يكد يسيغه أهل غيره من البلدان، ولكني والحق أقول، لم أجد في حمراء الأمم وصفرائها إلا ومن يستحسن ويستطيب السمك، وألذه فرخ الرملي الذي إذا ما أخرج من البحر طازجاً، وطبخ بالفرن حتى يسيل الدهن عن جانبيه، ثم تبّل تتبيلة السمكة الحرة وقدم مع أرز الصيادية، فإنه يسر ويعجب جميع القوم، حتى لا يختلف في الإعجاب به إثنان، ومهما تفرقت بالناس الأهواء في الطعام، اجتمعوا على حب السمك وتفضيله على غيره.
قلت: فما قولك يا جدي فيمن اختلف على فضل ما بين الكباب والكردنبل، وجعل الدعوة إلى الوليمة لمن يأتيه بالقول الفصل؟
قال: أما والله إن صاحبك هذا لماكر، وما أحسن ما تخلص، فوالله لن يتفق الناس على فصل ما بينهما إلى يوم يبعثون، واعلم أن الخلق لا يزالون في اختلاف، وأنه لو كان كريماً كما تقول لدعاكم إلى ما شاء من الأصناف، ولو علم أن رضى الناس غاية لا تدرك، لجعل على مائدته بعضاً من السمك، فإنه لن يختلف عليه اثنان، ولن ينتطح فيه عنزان، ولو اقتصر على السمك لقام عنه الناس شاكرين، ولدعوا له أجمعين: "اللهم أخلف على من بذل، وهيئ لنا غيره في العجل العجل"
قلت: يا جدي، فما العمل؟
قال: ليس أمامك إلا أن تفعل ما فعله أبو يوسف القاضي. قلت وما فعل؟ قال: ذكر أبو منصور الثعالبي أن هارون الرشيد وزبيدة اختلفا في الفالوذج واللوزينج، أيهما أفضل؟ ثم تحاكما إلى أبي يوسف القاضي، فقال أبو يوسف: إني لا أحكم بين غائبين، فأحضروهما أحكم عليهما!
وللقصة تتمة، نقصها عليكم إن صدق ابن خنشور فيما عزم عليه من نيته، وأنجز لنا ما كان يصفه من دعوته.
وإلا... فإن معشر حكيم سيدعون الله في ليلة القدر، من أجل أن يبعث أبا عثمان الجاحظ من قبره، ليكتب لنا فصلاً جديداً في كتابه: البخلاء.

كباب (6)

قال الحكيم السبيعي*:
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فقد راعني ما شهدت من حرص على التأ صيل والتدقيق و التمحيص في أمر ذي جلل يحار فيه اللبيب و يخطئ فيه الاريب. و من تمازجت حليمات ذوقه بالطعام تمازجا وتعانقت مع أريج الغذاء تعانقا، أبى إلا ان يجد الفصل في القول و الحق بين الآراء، على أن الاختلاف غير مفسد للود أو باعث لضغينة.
و إني مبلغكم فاسمعوا عني، لاأبتغي بذلك إلا مثوبة من لاتضيع الودائع عنده، و إني رغم ودي للعلامة ابن أحمد لكني خبرت أهل الغرب والشرق، وأكلت من طعامهم و شربت من شرابهم، حتى عرض علي هذا الكوردون و حسبته ما كان يظنه أخونا ابن أحمد طيبة من أطيابهم وفلتة من فلتاتهم و شيئا آخر غير ما عهدناه، يطرب للقائه اللسان، وتنتشى به الأمعاء، و تسكر به الجنان.
تناولت أول قضمة وكأني أمضغ مطاطا عجن بتراب فاسد! فقلت في نفسي: هون عليك و دع الحكم للقضمة الثانية، فإن الله لايحب المتعجلين وفي التأني السلامة. ولعلك إن تركت لحليمات ذوقك العنان تسبح فى أفق التلذذ و المعاينة والكشف تأتي بما لم يبصره الكثيرون من بديع الخلق وحسن الصنع. و ما أن هممت بالثانية حتى لاح لي في الصحن لون لم نك نألفه في الكوردون، وفي لحظتها هاج بي غثيان عظيم، وصرت أدافع ما بقي في فمي لئلا يصل إلى جوفي. وما كدت أصدق أن الدجاج قد مزج بلحم خنزير، وأن النجس كاد يمر إلى جوفي. فقمت وقد عافت نفسي كل طعام، و لساني يلهج بالاستغفار. وأنا أحلف من يومها ألا أدع لهذا الكوردون سبيلا إلى فمي، حتى و إن تيقنت من مصدره و معجنه إلا أن يخرجني ربي من بلاد لايذكر فيها اسمه أو تراعى فيها حرمته.
وهكذا آل بي المآل أن لا أسرع في طعام الفرنجة ولا أثق بمستظرفهم إلا ما قل و ندر. و الحمد لله الذي جعل في الأمة من يصنع كبابا يحار فيه الحكيم ويهرع إليه أهل الشرق والغرب، و من زهد فيما يديه إبتغاء ما في يد الناس ألبسه الله لباس الجوع و الندم. فهل من مبلغ عني؟ اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد.
_____________________________
* هو الطبيب الأريب، و الصديق الحبيب، الدكتور عمر السبيعي.

كباب (5)

قال ابن خنشور:
كـبـابـاً فـي رُبـى دومــا اُقـــيـــــمُ ........... و لــحـــمـاً لا يُـــقـاوَمُ يــا حـــكــــيـــمُ
و لله الحمد و المنّة، أما بعد: فلقد أجاد ابن أحمد في مدحنا و إظهار جودنا و كرمنا و إنه والله حق و لو كره الصالحانيون. و قد كفى و وفى حين رام حسن النصيحة و صارع لأجلها الجبال و الوديان ليأتينا بها على طبق من فضة و ليته لم يفعل!
و لا أقصد بذلك النصيحة و إنما مصدرها، وردنا من مصادرنا الموثوقة أن ذلك (المستشيخ) الزنديق المدعو - أبو المعتز الصالحاني - المنزوي في غاره المهجور ما كان ليكون على هذه الحال لولا أن جار به الزمان و تقطعت به السبل و الأوصال. ذاك الذي يدعي المشيخة و الحكمة كان في يوم من الأيام في بلاد الفرنجة الانكليز فأخذ منهم كل ما هو خبيث و مستقذر و عاد به إلينا ليفسد في الأرض. فما كان من قومه إلا أن نفوه إلى ذلك الغار التعيس، فادّعى الحكمة علّه يحظى بصدقة أو كوردون بلو من أولئك المغفلين الذين يزورونه. و إنني و الله– يا ابن أحمد– لا أسبغ عليك هنا صفات المغفلين -معاذ الله- و لكن أقول لكل جواد كبوة و لكل شاعر سقطة؛ فاجتهد في طلب النصيحة و اعتمد على عقلك و حكمتك فإنهما و الله يزنان ملئ الأرض من أولئك الصوالحة أئمة البدع و الضلال.
و سأفضل مبدئياً الكباب على الكوردون بلو إلى أن يتم الفصل بينك و بين ابن الأسمر. و اعلم يا ابن أحمد أنه لا يمنعني من إقامة وليمة فيها من الكباب و الكوردون بلو ما تشتهيه النفس و تسعد به الروح إلا أن يقال: عدم أشاوس الطب الرأي و لم يفصلوا بين الكباب و الكوردون بلو! و الحمد لله رب العالمين.

كباب (4)

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته، و بعد البسلمة و الحمد و الثناء، و الصلاة على خاتم الرسل و إمام الأنبياء، فإني أبتدئ القول باعتذار أسوقه إلى أخينا صاحب العزائم و شيخ الولائم .. الأمير ابن خنشور، و ذلك لما بدر منا من تقصير في الإجابة عن سؤاله، فأرجو أن يعذرنا على سوء أدبنا و إنما شيمة الكرام إذا اقتدروا أن يعفوا، و إنا لنعلم أن أخانا ابن خنشور ما غضب لنفسه يوما قط، و لكن ذنبنا اليوم فيه حجب الخير عن أفواه جائعة و بطون واسعة قد نزلت بباب الإحسان، و ذلك مما يستاء منه الجواد ابن خنشور و يمتعض.
و أما عن سبب تأخرنا في الإجابة فهو أننا كنا مرتحلين في طلب العلم من بعض أشياخنا في أطراف الأرض، و خبر ذلك ما سنورده مفصلا فيما يأتي:
فإنه لما رد الإمام أبو مالك علي رده السابق لبعض أيام خلت، و استند فيه إلى صحيفته الصفراء الممزقة تلك، وقع في نفسي أنه ما يكون لي أن أكذب الصحيفة فأدفعها، و لا أن أصدقها فأقبلها إلا بعد تثبت و يقين، فهرعت من فوري إلى قرطاسي و قلمي فاستنسخت الصحيفة، و إلى فرسي المضمرة فامتطيتها و أطلقت لها العنان، و انطلقت...
أجوز المفاوز و أقطع الصحاري، و أخترق الغابات و أعبر البراري، تستوقفني الجبال فلا أزال مقبلا حتى أبلغ رؤوسها، و تعترضني الوديان فلا أبرح متمكنا حتى أطأ بطونها، و بقيت على تلك الحال يوما و بعض ليلة لا أتبلغ بطعام و لا أرتوي بشراب، حتى بلغت مرادي بالوصول إلى مقام شيخي و شيخ آبائي من قبلي الإمام روح الدين و وسام شرف الأمة أبو المعتز بالله الصالحاني، في معكتفه من الغار الذي ما برحه مذ خلق، و الكائن في ناحية من أطراف دمشق يقال لها تواضعا " القدم ".
فلما وصلت كان الليل قد جن فقلت: و الله لئن دخلت الآن على شيخي لأجدنه قائما في صلاته، و لا أحب أن أشاركه صلاته الطويلة فيزعجني، و لا أن أقطعه عنها فأزعجه. فانتحيت غير بعيد عن الغار و جلست أتبلغ بلقيمات من كوردون بلو كنت قد تزودت بها في رحلي، أقيم بها صلبي، و أتقوى بها على طاعة ربي، فلما انسحقت اللقيمات بين ماضغي و حصل لي من لذيذ طعمها ما حصل، قلت: ويحك يا نفس! أتأكلين الطعام و تحتسين الشراب و شيخك جائع إلى جنبك و أنت تعلمين. فتركت اللقيمات التي كانت في يدي و حزمت أمري فدخلت الغار، فإذا الإمام أبو المعتز جالس على التراب و قد أسند رأسه إلى صخرة عظيمة من خلفه، و سبحته الطويلة في يده، فلما أن أحس بي تبسم، و بادرني دون أن يلتفت: أهان أمرنا عليك فأكلت من دوننا يا ابن أحمد؟!
فارتميت على رجله أريد تقبيلها، و قلت: اغفر لي يا شيخي، إني أتوب على يديك و لا أعود إلى ذنبي بعد اليوم أبدا. فقال: قم فقد سامحتك مذ دخلت فلا تبتئس، و أخبرني ما ورائك، أم أخبرك أنا؟
فقلت: أدام الله كشف الغطاء عنكم يا شيخي، إنما جاء بي ذاك الرجل، أبو مالك بن الأسمر، فإنه قد جاءني بصحيفة ما رأيت مثلها قط، فيها طعن صريح، و شبه تجريح، لمنهاج أكل الكوردون بلو، و هو –أي الكوردون بلو- على ما تعرف و أعرف من الفضل و الرفعة و علو الدرجة.
قال: فأما الكوردون بلو، فشيء ما عرفناه قط، فإني ما دخل جوفي مذ فطمت عن الرضاع إلا الأسودان: التمر و الماء، و أما ما تذكر من شأن الصحيفة فهات أرينيها، فلقد وسع علمنا بفضل الله ما وسع، ولئن أتيتني بالصحيفة لآتينك بناسخها، و لئن جئتني بالقول لآتينك بقائله، فذلك مما علمني ربي.
فقمت فناولته الصحفية ففضها و قرأ ما فيها بنظرة واحدة لم يثنّها، ثم تركها و عاد إلى تسبيحه. و لبث و لبثت على ذلك حينا، حتى كدت أن أهم بأمر سوء، و بينا نحن كذلك إذ طلع علينا الصبح و أذن فينا المؤذن فقمنا نؤدي المكتوبة. فلما أتممنا حق ربنا، التفت الإمام إلي و قال: يا ابن أحمد، إن لهذه الصحيفة شأنا له ما بعده، و إنها إذ كانت في يد خصمك فاعلم أنك لا تظهر عليه إلا بطويل صبر و كثير علم، و إنا لمزودوك بعد الدعاء بهذا الكتاب، فاذهب فألقه إليهم فانظر لعل الله يجعل فيه اصطلاح القلوب و نيل المرغوب. و قد جاء في الكتاب:
" من عبد الله وسام الدين أبو المعتز بالله الصالحاني إلى معشر المؤمنين أما بعد: فلقد بلغنا أنكم اختلفتم في صنفين من أصناف الشواء لا تدرون أيهما خير طعاما و أقرب نفعا، و إنا لنرى – و الأمر أمر الله – أن تجعلوا الصنفين على مائدة الوليمة، و ليأكل كل مما يحب، ذلك أدنى ألا تتنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم، و جزى الله صاحب الوليمة ما هو أهله، و لا تنسونا من ولائمكم و لا من صالح دعاءكم".انتهى