بينما أنا نائم في داري في أرض المزة من أعمال دمشق في ليلة برد وقر سمعت صوتاً كأنه العويل فانتبهت من نومي وإذا برجل يجلس قدامي ينظر إلي , فامتلأ قلبي فرقاً منه وذعراً وهممت بالصياح فأشار إلي أن كفّ ثم قال أي عام هذا ؟ فلم أدر بم أجيبه وقد ارتج علي فقال هو السابع والعشرون بعد أربعمائة وألف للهجرة , ثم سكت وأطرق وقد تملكني الخوف فيبست أوصالي وانعقل لساني , ثم قال كأنه يكلم شخصاً بجانبه : ألف عام خلفاً , فأحسست ظلمة تحيط بي وتمتد حتى ما عدت أرى شيئاً ثم أحسست خدراً في جسمي فأيقنت أنه الموت فصرت ألتمس الشهادة فلا أذكرها , ثم ما لبثت الظلمة أن راحت تنقشع وعادت إلي الروح شيئاً فشيئاً , ونظرت حولي فإذا أنا وسط شارع عريض في جانبيه دكاكين وفيه أناس يروحون ويجيئون وقد ارتدوا العجائب فعلى رأس الواحد منهم عمامة وعلى سائر بدنه طيلسان , وكنت أرتدي من لباس العامة من أهل دمشق بنطالاً وقميصاً ذا أزرار , ورحت أقلب النظر فيمن حولي مندهشاً وهم يتغامزون إذا مروا بي حتى سمعت جلبة من خلفي فنظرت فإذا صبيان يلحقونني وقد حسبوني مجنوناً فركضت لا أدري ما أصنع وهم يصيحون ورائي بالمستقبح من الألفاظ والمرذول من الأقوال وأنا أنظر في عيون الناس مستنجداً فأجدهم بين ضاحك علي ساخر بي أو متفرج غير مبال . حتى رأيت رجلاً يبدو عليه الصلاح والوقار فارتميت بين يديه وأنا لا أعقل ما أقول فصاح بالصبيان فتفرقوا , وأقبل يهدئ من روعي حتى أنزل الله السكينة في قلبي واستقر مني ما كان مضطرباً , ثم إنه دعاني إلى داره......
الأحد، 6 يناير 2013
حكيم أيام الدولة العباسية
بينما أنا نائم في داري في أرض المزة من أعمال دمشق في ليلة برد وقر سمعت صوتاً كأنه العويل فانتبهت من نومي وإذا برجل يجلس قدامي ينظر إلي , فامتلأ قلبي فرقاً منه وذعراً وهممت بالصياح فأشار إلي أن كفّ ثم قال أي عام هذا ؟ فلم أدر بم أجيبه وقد ارتج علي فقال هو السابع والعشرون بعد أربعمائة وألف للهجرة , ثم سكت وأطرق وقد تملكني الخوف فيبست أوصالي وانعقل لساني , ثم قال كأنه يكلم شخصاً بجانبه : ألف عام خلفاً , فأحسست ظلمة تحيط بي وتمتد حتى ما عدت أرى شيئاً ثم أحسست خدراً في جسمي فأيقنت أنه الموت فصرت ألتمس الشهادة فلا أذكرها , ثم ما لبثت الظلمة أن راحت تنقشع وعادت إلي الروح شيئاً فشيئاً , ونظرت حولي فإذا أنا وسط شارع عريض في جانبيه دكاكين وفيه أناس يروحون ويجيئون وقد ارتدوا العجائب فعلى رأس الواحد منهم عمامة وعلى سائر بدنه طيلسان , وكنت أرتدي من لباس العامة من أهل دمشق بنطالاً وقميصاً ذا أزرار , ورحت أقلب النظر فيمن حولي مندهشاً وهم يتغامزون إذا مروا بي حتى سمعت جلبة من خلفي فنظرت فإذا صبيان يلحقونني وقد حسبوني مجنوناً فركضت لا أدري ما أصنع وهم يصيحون ورائي بالمستقبح من الألفاظ والمرذول من الأقوال وأنا أنظر في عيون الناس مستنجداً فأجدهم بين ضاحك علي ساخر بي أو متفرج غير مبال . حتى رأيت رجلاً يبدو عليه الصلاح والوقار فارتميت بين يديه وأنا لا أعقل ما أقول فصاح بالصبيان فتفرقوا , وأقبل يهدئ من روعي حتى أنزل الله السكينة في قلبي واستقر مني ما كان مضطرباً , ثم إنه دعاني إلى داره......
الخميس، 14 مايو 2009
كباب (9) ختام القول
أبـا مالـكْ فلا تعجل علينا ..... و أنـظـرنـا لـنـطـعـمـك الـكـبـابـا
و ثِـقْ دوماً بأني لستُ شحّاً ..... و لا بـخـلاً أؤجـل مـا استطابا
و لكنْ حيرتي قد أقعدتني ..... وليت الـنـصـح يـأتـي و الصوابا
أنائلُ قُــم لإرشادي و نصحي ..... وواجه في سبيلهما الصعابا
و لا تهب الكبابَ و لا القوافي ..... فما حقّ ابن أسمر أن يُهابا
سأعزم من يفوز إلى طعامي ..... و أطعم خاسر الرهن الترابا
كباب (8)
ألا حي المشاوي والكبابا ..... وما قـد لـذّ مـن أكـل وطـابـا
وإنْ رجـلٌ دعاك لكردنبلو ..... فـأسمعه الـشتـائـمَ والسبابا
فإن الكردنبل طعام سوءٍ ..... سأهتك عن مساوئه الحجابا
لو استبخرتَه في البيت يوماً ..... لأهلكتَ البعوضةَ والذبابا
ومن يرجو لذيذَ الطعم منه .... كمن في قـفرة لحق السرابا
فدع عنك الطعام سوى شواءٍ .... متى ما لُكتَه في فيك ذابا
فـإن اللـحـم خـيـر الأكـل طـراً ..... ودعـوته أحق بأن تجابا
لعـمـري إن مـنـظـره بـلـيـلٍ.....على الجمرات تلتهب التهابا
لأجمل من محيّا ذات حسنٍ ..... إذا الحسناء أسقطت النقابا
ونزّ الدهن أطيب نكهةً من.... لمى العذراء تسقيك الرضابا
وصوت نشيشه في الأذن خيرٌ ... وأجمل من مواويل العتابا
فحسبي اللحم لا أرضى سواه .... طعاماً أو حساءً أو شرابا
أنـبـتـدع الـطـعـامَ ونـحـن قومٌ ..... جـعـلـنـا كـلَّ مـبـتـدَعٍ يبابا
و جزى الله الطبيب السبيعي خيراً على مناصرتنا والله يشهد أن هواه مع الكباب دون الذي هو أدنى، وأما الحوت والسمك وغيره من طعام البحر فسأمنحكم شيئاً من علمي عنه في مواضيع قادمة مع طريقة طبخه وكيفية إنضاجه، فإن في تعليم الجاهلين ثواباً، وقد بلغني أن الذي يكتم العلم له عذاب أليم، فخذوا عني قبل أن أغادركم إلى دار البقاء .... إلى دارٍ خيرٍ وأبقى ... إلى قصورِ ياقوتٍ ومرجان، ولحمٍ وفاكهة ورمان، وحورٍ عينٍ حسان (إيييييييه) ورضوان من الله أكبر، والسلام عليكم.
كباب (7)
بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد لله الذي لو شاء لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، والصلاة والسلام على أفضل الخلق المبعوث رحمة للعالمين، وبعد:
فإني بعدما طال بكم المقام، عزمت على أن أسأل أصحاب الرأي والتجربة عن رأيهم في أطايب الطعام، فلجأت إلى جدي، أكرمه الله وأطال في عمره، وقد جمع الله له مع رجاحة العقل طول التجربة، وقد قال أهل الأمثال من الصالحانيين: اسأل مجرباً ولا تسأل "حكيم".
قلت لجدي: أفتنا في الطعام والشراب، أيهما أطيب: الكردنبل أم الكباب؟! فتبسم وأجابني: اعلم يا بني أني طوفت البلاد، وجبت الآفاق، فما وجدت بني آدم يختلفون في شيء اختلافهم في الطعام والشراب، وقد قيل: "كل مما تشتهيه نفسك، والبس مثلما تلبس الناس" ووجدت يا بني أنه ما استطابه أهل مصر من الأمصار لم يكد يسيغه أهل غيره من البلدان، ولكني والحق أقول، لم أجد في حمراء الأمم وصفرائها إلا ومن يستحسن ويستطيب السمك، وألذه فرخ الرملي الذي إذا ما أخرج من البحر طازجاً، وطبخ بالفرن حتى يسيل الدهن عن جانبيه، ثم تبّل تتبيلة السمكة الحرة وقدم مع أرز الصيادية، فإنه يسر ويعجب جميع القوم، حتى لا يختلف في الإعجاب به إثنان، ومهما تفرقت بالناس الأهواء في الطعام، اجتمعوا على حب السمك وتفضيله على غيره.
قلت: فما قولك يا جدي فيمن اختلف على فضل ما بين الكباب والكردنبل، وجعل الدعوة إلى الوليمة لمن يأتيه بالقول الفصل؟
قال: أما والله إن صاحبك هذا لماكر، وما أحسن ما تخلص، فوالله لن يتفق الناس على فصل ما بينهما إلى يوم يبعثون، واعلم أن الخلق لا يزالون في اختلاف، وأنه لو كان كريماً كما تقول لدعاكم إلى ما شاء من الأصناف، ولو علم أن رضى الناس غاية لا تدرك، لجعل على مائدته بعضاً من السمك، فإنه لن يختلف عليه اثنان، ولن ينتطح فيه عنزان، ولو اقتصر على السمك لقام عنه الناس شاكرين، ولدعوا له أجمعين: "اللهم أخلف على من بذل، وهيئ لنا غيره في العجل العجل"
قلت: يا جدي، فما العمل؟
قال: ليس أمامك إلا أن تفعل ما فعله أبو يوسف القاضي. قلت وما فعل؟ قال: ذكر أبو منصور الثعالبي أن هارون الرشيد وزبيدة اختلفا في الفالوذج واللوزينج، أيهما أفضل؟ ثم تحاكما إلى أبي يوسف القاضي، فقال أبو يوسف: إني لا أحكم بين غائبين، فأحضروهما أحكم عليهما!
وللقصة تتمة، نقصها عليكم إن صدق ابن خنشور فيما عزم عليه من نيته، وأنجز لنا ما كان يصفه من دعوته.
وإلا... فإن معشر حكيم سيدعون الله في ليلة القدر، من أجل أن يبعث أبا عثمان الجاحظ من قبره، ليكتب لنا فصلاً جديداً في كتابه: البخلاء.
كباب (6)
كباب (5)
و لله الحمد و المنّة، أما بعد: فلقد أجاد ابن أحمد في مدحنا و إظهار جودنا و كرمنا و إنه والله حق و لو كره الصالحانيون. و قد كفى و وفى حين رام حسن النصيحة و صارع لأجلها الجبال و الوديان ليأتينا بها على طبق من فضة و ليته لم يفعل!
و سأفضل مبدئياً الكباب على الكوردون بلو إلى أن يتم الفصل بينك و بين ابن الأسمر. و اعلم يا ابن أحمد أنه لا يمنعني من إقامة وليمة فيها من الكباب و الكوردون بلو ما تشتهيه النفس و تسعد به الروح إلا أن يقال: عدم أشاوس الطب الرأي و لم يفصلوا بين الكباب و الكوردون بلو! و الحمد لله رب العالمين.
كباب (4)
و أما عن سبب تأخرنا في الإجابة فهو أننا كنا مرتحلين في طلب العلم من بعض أشياخنا في أطراف الأرض، و خبر ذلك ما سنورده مفصلا فيما يأتي:
فإنه لما رد الإمام أبو مالك علي رده السابق لبعض أيام خلت، و استند فيه إلى صحيفته الصفراء الممزقة تلك، وقع في نفسي أنه ما يكون لي أن أكذب الصحيفة فأدفعها، و لا أن أصدقها فأقبلها إلا بعد تثبت و يقين، فهرعت من فوري إلى قرطاسي و قلمي فاستنسخت الصحيفة، و إلى فرسي المضمرة فامتطيتها و أطلقت لها العنان، و انطلقت...
أجوز المفاوز و أقطع الصحاري، و أخترق الغابات و أعبر البراري، تستوقفني الجبال فلا أزال مقبلا حتى أبلغ رؤوسها، و تعترضني الوديان فلا أبرح متمكنا حتى أطأ بطونها، و بقيت على تلك الحال يوما و بعض ليلة لا أتبلغ بطعام و لا أرتوي بشراب، حتى بلغت مرادي بالوصول إلى مقام شيخي و شيخ آبائي من قبلي الإمام روح الدين و وسام شرف الأمة أبو المعتز بالله الصالحاني، في معكتفه من الغار الذي ما برحه مذ خلق، و الكائن في ناحية من أطراف دمشق يقال لها تواضعا " القدم ".
فلما وصلت كان الليل قد جن فقلت: و الله لئن دخلت الآن على شيخي لأجدنه قائما في صلاته، و لا أحب أن أشاركه صلاته الطويلة فيزعجني، و لا أن أقطعه عنها فأزعجه. فانتحيت غير بعيد عن الغار و جلست أتبلغ بلقيمات من كوردون بلو كنت قد تزودت بها في رحلي، أقيم بها صلبي، و أتقوى بها على طاعة ربي، فلما انسحقت اللقيمات بين ماضغي و حصل لي من لذيذ طعمها ما حصل، قلت: ويحك يا نفس! أتأكلين الطعام و تحتسين الشراب و شيخك جائع إلى جنبك و أنت تعلمين. فتركت اللقيمات التي كانت في يدي و حزمت أمري فدخلت الغار، فإذا الإمام أبو المعتز جالس على التراب و قد أسند رأسه إلى صخرة عظيمة من خلفه، و سبحته الطويلة في يده، فلما أن أحس بي تبسم، و بادرني دون أن يلتفت: أهان أمرنا عليك فأكلت من دوننا يا ابن أحمد؟!
فارتميت على رجله أريد تقبيلها، و قلت: اغفر لي يا شيخي، إني أتوب على يديك و لا أعود إلى ذنبي بعد اليوم أبدا. فقال: قم فقد سامحتك مذ دخلت فلا تبتئس، و أخبرني ما ورائك، أم أخبرك أنا؟
فقلت: أدام الله كشف الغطاء عنكم يا شيخي، إنما جاء بي ذاك الرجل، أبو مالك بن الأسمر، فإنه قد جاءني بصحيفة ما رأيت مثلها قط، فيها طعن صريح، و شبه تجريح، لمنهاج أكل الكوردون بلو، و هو –أي الكوردون بلو- على ما تعرف و أعرف من الفضل و الرفعة و علو الدرجة.
قال: فأما الكوردون بلو، فشيء ما عرفناه قط، فإني ما دخل جوفي مذ فطمت عن الرضاع إلا الأسودان: التمر و الماء، و أما ما تذكر من شأن الصحيفة فهات أرينيها، فلقد وسع علمنا بفضل الله ما وسع، ولئن أتيتني بالصحيفة لآتينك بناسخها، و لئن جئتني بالقول لآتينك بقائله، فذلك مما علمني ربي.
فقمت فناولته الصحفية ففضها و قرأ ما فيها بنظرة واحدة لم يثنّها، ثم تركها و عاد إلى تسبيحه. و لبث و لبثت على ذلك حينا، حتى كدت أن أهم بأمر سوء، و بينا نحن كذلك إذ طلع علينا الصبح و أذن فينا المؤذن فقمنا نؤدي المكتوبة. فلما أتممنا حق ربنا، التفت الإمام إلي و قال: يا ابن أحمد، إن لهذه الصحيفة شأنا له ما بعده، و إنها إذ كانت في يد خصمك فاعلم أنك لا تظهر عليه إلا بطويل صبر و كثير علم، و إنا لمزودوك بعد الدعاء بهذا الكتاب، فاذهب فألقه إليهم فانظر لعل الله يجعل فيه اصطلاح القلوب و نيل المرغوب. و قد جاء في الكتاب:
" من عبد الله وسام الدين أبو المعتز بالله الصالحاني إلى معشر المؤمنين أما بعد: فلقد بلغنا أنكم اختلفتم في صنفين من أصناف الشواء لا تدرون أيهما خير طعاما و أقرب نفعا، و إنا لنرى – و الأمر أمر الله – أن تجعلوا الصنفين على مائدة الوليمة، و ليأكل كل مما يحب، ذلك أدنى ألا تتنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم، و جزى الله صاحب الوليمة ما هو أهله، و لا تنسونا من ولائمكم و لا من صالح دعاءكم".انتهى